رحم الله الإنسان رحمات لا تعد ولا تحصى «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا»، منها أنه عادة ما يفقد أصوله فى حياته ونادرًا ما يفقد فروعه.. فعادة ما يفقد الإنسان والديه وأعمامه وأخواله فى حياته.. وقد يفقد بعض أصدقائه وأشقائه ولا يفقد عادة أولاده فى حياته.. لأن فقد الأولاد أصعب وأشق على الإنسان من فقد والديه، وخاصة إذا كبر سنهما وبلغا من الكبر عتيا. ولذلك كان ثواب فقد الأولاد عظيما «قبضتم ثمرة فؤاده؟» هكذا يقول الله لملائكته ويسألهم وهو أعلم بأمر عباده منهم: ماذا قال عبدى؟ فيقولون «حمدك واسترجع فيقول: ابنوا لعبدى بيتًا فى الجنة وسموه بيت الحمد». وقد مستنى كل هذه الأنواع من الضر.. فماتت ابنتى نوران المريضة بالقلب إثر جراحة معقدة لتمثل فقد الفروع وكان موتها رحمة لها ولنا وقد بكيناها كثيرا رغم مرضها وصغر سنها.. وتوفى شقيقى الأصغر أحمد سعيد الذى كان من أحب الأشقاء إلى قلبى وأقربهم لى سمتًا وخلقًا ليمثل فقد الأغصان. وتوفى والدى ووالدتى وكانا سندى فى الحياة وكتبت عنهما كثيرا، ومازلت أشعر بفقدهما وحاجتى إليهما رغم تجاوزى الستين وأمتن لكل ما قدماه لى من بذل وعطاء وطعام حلال وخلق كريم وتربية فى بيت صالح.
ثم بدأت كل الأصول تتهادى وتغيب من حياتى فماتت خالتى والدة الشهيد مراد سيد عبدالحافظ بطل أكتوبر الحاصل على نجمة سيناء أرفع وسام عسكرى مصرى، والوحيد من بلدتنا الذى حصل على هذا الوسام الرفيع، وأحد تلاميذ الشهيد العظيم إبراهيم الرفاعى، والذى تفخر زوجته وابنته «عبير» وكذلك أحفاده بكل ما ينشر عنه. ومنذ أيام قليلة توفيت آخر خالاتى وأجملهم «خلقًا وخلقًا» «كوثر» التى لها حظ وافر من اسمها، وبوفاتها تكون كل أصولى قد ذهبت إلى ربها، وفارقت دنيانا. هكذا سأعيش منذ اليوم بلا أصول «لا أعمام ولا أخوال ولا خالات».. لأنظر فيمن حولى وجيلى، وأخشى من فقد الأشقاء أو الشقيقات أو الأصدقاء، أو ما يسمى بالأغصان التى من حولى.
مع فقد خالتى الحبيبة لم يبق من أصولى أحد.. وبفقدها أغلق آخر بيت كان مفتوحًا للناس جميعًا.. ومضى الجيل العظيم من النساء الذى كان قادرًا على أن يفتح بيته لعشرات الضيوف فى وقت واحد وكان يسعد بقدومهم عليه.
انتهى جيل المرأة التى تبذل وتكافح من بداية حياتها حتى نهايتها.. فقد توفى زوج خالتى وهى فى ريعان شبابها.. وأرادت الصبر على تربية أولادها، لولا أن أحدهما كان عاقا بها وشرسًا معها، فاحتمت بالزواج من بطشه وتزوجت تاجرًا بدأت معه رحلة كفاح حتى أصبح أشهر تاجر فى أسيوط، وكان متجره فى أواخر الستينيات والسبعينيات نموذجًا للدقة والأمانة والجودة.
وقامت خالتى بتربية ولديه الكبيرين فى شقتها قبل أن يبنى لأسرته عمارة كاملة فتخرج ابن زوجها الأكبر د. نادى من كلية الطب، ثم أصبح معيدًا، فمدرسًا، فأستاذًا للجراحة فى جامعة الزقازيق، وها هو اليوم وقد جاوز الستين وخرج للمعاش. وتخرج ابن زوجها الأصغر من كلية التجارة، وأصبح الآن مديرًا عامًا بجامعة الزقازيق، ثم ولدت من زوجها البنين والبنات الذين تخرجوا جميعًا من الجامعة وتزوجوا وأنجبوا، فصار لها أولاد وأحفاد، وتزوج بعض أحفادها لتشهد الجيل الثالث من نتاجها. مضت خالتى كوثر وكل الذين عرفوها من أقاربى يرددون سويًا: «أُغلق البيت عن الضيوف والزائرين من بعدها».
كنت وأشقائى الأقرب لخالتى، وكنت أتردد عليها دائمًا فى بيتها حينما كنت طالبًا فى كلية الطب، وكان بيتها بيت كرم وجود وفضل، وكان طعامها لا يقاوم من روعته.
لقد مضت الأصول جميعًا.. واليوم بقيت الأغصان والأصدقاء والأشقاء، لتبدأ مرحلة الرحيل فى الوقت الذى يتزوج فيه الأولاد والأحفاد وتتدفق المواليد لتعوض الذين فارقونا إلى الأبد، وغابوا عنا، حيث الحياة الأخرى «وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ».
سلام على الأحياء والموتى والمواليد.. سلام على الأولين والآخرين، رزقهم الله جميعًا عافية الدارين.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة