د. مجدى عاشور

تجديد التفكير الدينى

الجمعة، 14 أكتوبر 2016 08:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
(8) الدين يدعو إلى صناعة الحياة وليس الموت
 
مما تتفق عليه الأديان والشرائع والعقول السوية، أن الإنسانَ قد ميَّزه اللهُ تعالى عن سائر المخلوقات، بما حَبَاه من عقلٍ كميزانٍ للتفكير والاختيار، فضلًا عن أن رُوحَه اختُصَّت بأنها من رُوحِ الله، كما قال تعالى:﴿فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾[الحجر: 29].
 
فكان بذلك أهلًا للدعوة إلى العناية به من قِبَل نفسه أو من الآخرين، كما هو مُكَرَّم عند ربِّ العالمين في قوله سبحانه:﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾[الإسراء: 70].
 
والآية وإن كانت من قَبِيل الخبر والإعلام بهذه الخصوصية، إلا أنَّ مِن مقتضياتها ولوازمها أن يُؤخَذَ منها معنى الإنشاء والطلب والتكليف للبشر؛ أى: أَكرِموا الإنسانَ في ما بينكم كما هو مُكرَّمٌ عند ربِّكم .
 
ولهذا عندما ننظر إلى المقاصد العليا لأيِّ دينٍ أو تشريعٍ أو قانون، نجد أنه أُنزِل أو وُضِع لخدمة الإنسان باعتباره سيِّدًا في هذا الكون، ووُجِدَتِ المخلوقاتُ الباقية من أجل أن يستعين بها في إقامة شئون حياته، والحفاظِ على بقية الموجودات، قال اللهُ عز وجل:﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ﴾[الجاثية: 13].
 
ومن خلال ذلك الفهم النصى والواقع الـمُشاهَد، نجد أن الحفاظَ على الإنسان هو مقصودٌ كُلِّيٌّ للشرع، والحفاظ عليه هنا ليس على نفسه وحياته فقط، وإنما على كلِّ ما يَخُصُّه من عِرْضٍ وعقلٍ ومِلْكٍ وكرامة إنسانيَّة، وإن كان الأهمُّ فيها هو حياته؛ إذ ما معنى أن يكونَ هناك دِينٌ مثلًا وليس ثمة مَن يُكَلَّف أو يقوم به، وهو الإنسان.
 
إِذَنْ فقد شُرِعَ ووَجَبَ حفظُ المقاصد كلها من أجل المحافظة على حياة الإنسان وشئونه وكل ما يتعلق به، وهو بدوره يستخدمها جميعا في إقامة عبادة ربه على ما ينبغي، وكذلك تهذيب نفسه على الوجه الذي يرضي ربه ويُصلح شأنه، بالتزامن مع عمارة الكون الذي سُخِّر من أجله والاعتناء بكل مظاهره ومكوَّناته، ومن هذا المنطلق جاء النهي عن الفساد في الأرض، مع بيان سوء عاقبة من يسعى إلى ذلك أو يعين عليه، فقال سبحانه عن الإنسان المفسد : ﴿وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ . وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ﴾ [البقرة : 205 – 206].
 
ولكل ما سبق فإذا تتبعنا موارد النصوص الشرعية، فسنجدها تدعو إلى "صناعة الحياة" حتى في مواطن الهلاك ومَظِنَّة الموت، كما جاء في القرآن الكريم عند ذكر مفارقة نوح عليه السلام لقومه حين آذوه ولم يؤمنوا به، فأمره الله باتخاذ وسائل النجاة له وللقلة التي آمنت به وصَدَّقَتْه، وأن يحمل في السفينة زوجين _ ذكرًا وأنثى – من كل الأنواع التي كانت تحيط به ونعيش معه في بيئته؛ ليتزاوج كلٌّ منها بعد ذلك ويسنمر التناسل وتتواصل الحياة وعمارة الأرض، وفي هذا السياق يقول الله تعالى : ﴿حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ .
 
وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا﴾[هود : 40، 41 ]، ففي القصة بيان صحيح وصريح في كيف نحافظ على حياتنا وحياة الآخرين ولو كانوا من غير جنس بنى البشر حتى في أحلك الأزمات ولو على مشارف الموت، وهو ما يمكن أن نطلق عليه: "كيفية صناعة الحياة وقت الموت"، ويؤكد ذلك ويرسِّخه ما ورد بهذا المعنى صراحة فى جملة بليغة شافية كافية فى هذا المعنى الإنسانى العظيم، حيث يقول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم : "إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا"(رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد). 
 
بل أكثر من ذلك نجده في معنى "الجهاد فى سبيل الله" والذى جعله المتشددون مفهوما مغلوطا فأخرجوه عن معناه الحقيقى وغايته السامية المشرقة، إلى معنى إهلاك النفس وإزهاقها في غير ما أمر الله تعالى به من الدفاع عن الأرض والعِرْض، بل بيَّن الشرع الشريف للمجاهد دفاعًا عن البلاد والعباد أن لا يكون قصده الأول من قتاله أن يُقْتَل فيفرِّط في الحفاظ على حياته، وإنما أمره بمواجهة العدو لصدِّه إن استطاع مع الإبقاء على حياة نفسه، فإن اضْطُرَّ إلى أن يضحي بنفسه من أجل وطنه ودينه فليكن ذلك عند حد الضرورة، ونجد هذا ظاهرا فى كتاب الله تعالى، حيث أشار في سياق بيات فضل الجهاد فى سبيل الله، فألمح للمجاهد أنه دخل المعركة الشريفة ليَقْتُلَ أولًا لا ليُقْتَلَ، فإن ألجأه الحال إلى التضحية بنفسه فلا بأس إن لم يكن ثمة سبيل إلى غيرها، وفي ذلك يقول عز من قائل : ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ . يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ﴾[التوبة : 111]. وبهذا أُمِر المقاتل في سبيل الله أن يحافظ على الحياة حتى وهو في ساحة القتال والموت.
 
وبعد هذا التأصيل المُيَسَّر نجد أن الجماعات المتطرفة والإرهابية يعملون بعكس مقصود الشرع في إعلاء قيمة الحياة والمحافظة عليها، فيعيثون في الأرض فسادًا بقتل الأبرياء، والاستهانة بالنفس الإنسانية المنمثلة في شخصه، فيُلْقِي بنفسه في المهاوي والمهالك ويظن أنه شهيد، وهو لم يأخذ حظًّا من الشهادة، لا من قريب ولا من بعيد، وأصبحوا بذلك عنوانا ل "صناعة الموت" والعيش النَّكِد، بَدَلَ أن يكون نبراسًا وهداية للعالمين وأداة لتعليمهم: "صناعة الحياة" وعمارة الكون وسعادة النفس.
 
وأساس هذه الصناعة أو تلك، هو أن مَن قَتَل نفسًا بريئة بغير حقٍّ، ولو كانت نفسَه هو، فقد قتل مَن وراءها، ووقع في براثن "صناعة الموت" . وبالمقابل فمَنْ حاقظ على نفسه من التلف في غير حقٍّ، فقد أحيا نفسَه وأحيا كل مسئول عنه أو مقتدٍ به، وساهم في "صناعة الحياة"، وهذا هو مقصود شرع الله من عباد الله، تحقُّقًا بالقاعدة الخالدة في قول الله تعالى : ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِيْ إِسْرَائِيْلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيْعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيْعًا﴾[المائدة : 32] .   









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة