هذا بالضبط ما يطلبه صندوق النقد الدولى من مصر، أن تتخذ الحكومة قرارات حاسمة لتخفيض عجز الموازنة، حتى لا تكون كمواطن راتبه ألف جنية وينفق ألف وخمسمائه، فيظل يدور فى دائرة العجز والديون، وتتفاقم الأزمات عاما بعد عام، حتى يصل إلى شفا الإفلاس، وهذا معناه أن الصندوق ليس شيطانا، ويمسك العصا للحكومة، ليجبرها على اتخاذ إجراءات عنيفة تؤجج الغضب الاجتماعى.
والصندوق أيضا ليس ملاكا، لأنه يعلم جيدا ظروف الدول المدينة، ومن بينها مصر، وأن الخيارات المتاحة أمامها لتخفيض عحز الموازنة تنحصر فقط فى « ذبح الدعم»، لأن بنود الإنفاق الأخرى لا يمكن الاقتراب منها، مثل المرتبات والأجور وأقساط وفوائد الدين الخارجى، والدعم يذهب معظمه إلى الوقود والبطاقات التموينية، واللعب فيهما محفوف بالمخاطر.
صندوق النقد الدولى لا يضربنا على أيدينا لنقبل شروطه، ولكنه يحاول أن «يزنقنا فى خانة اليك» كما يقول المثل الدارج، والهروب من الورطة، يتطلب أن تتسلح الحكومة باليقظة، وأن يتسلح الشعب بالوعى، لعبور الفترة الصعبة القادمة، فالبديل ليس الدعاوى الإجرامية للخروج يوم 11/11، وإنما أن تتفهم الحكومة أن الناس فاض بهم الكيل، ولا يتحملون مزيدا من الغلاء وارتفاع الأسعار، وأن يكون الناس على درجة من الوعى لتفهم الظروف الصعبة.
الترشيد ليس سهلا ولكنه أيضا ليس مستحيلا، إذا اتسمت الإجراءات بالتدرج والمتابعة، ولتكن البداية - مثلا - بحملة لمناشدة غير مستحقى الدعم، أن يبادروا بأنفسهم بالتنازل عن البطاقات التموينية ولا يزاحموا الفقراء فى قوت يومهم، ويعقب ذلك حذف إجبارى متدرج لغير المستحقين، وعلى مراحل لمدة ثلاث سنوات أو خمسة، ويصحب ذلك حصر سلع البطاقات، كما كانت منذ نشأتها، فى السكر والشاى والزيت والأرز، وكفى تهريجا ومباهاة بضم سلع استفزازية.
مشكلة مصر المتراكمة، أن أرجلها طويلة ولحافها قصير، وعلاج أزماتها لا يكون بأسلوب اخطف واجرى، بفرض مزيد من الضرائب ورفع الأسعار، وإنما بإعادة ضخ استثمارات ساخنة، فى عروق الأنشطة الاقتصادية المتجمدة، لتحقيق نسبة مرتفعة من الاكتفاء الذاتى، تقلل الفجوة بين الصادرات والواردات، وتكبح جماح الدولار، وعندها سيكون مفتاح الصندوق فى أيدينا.