فى السياسة الدولية يلعب وزراء الخارجية أدوارا مهمة، تفوق فى حجمها وطبيعتها وتأثيرها، أحيانا كثيرة، باقى مؤسسات الدولة، وهى نظرية يمكن تطبيقها عمليا على حالة وزير الخارجية الروسى سيرجى لافروف فى السنوات الاثنتى عشرة الماضية التى تقلد فيها المنصب الرفيع.
كان يوم الأربعاء الموافق 30 يونيو من العام 2010، قائظا لدرجة تسيل معها غدد المصريين على ضفتى النيل فى القاهرة، وبالرغم من هذا لم تمنعنى حرارة الجو من تلبية اتصال مكتب الأمين العام والذهاب إلى مقر الأمانة العامة للجامعة العربية؛ لحضور المؤتمر الصحفى الذى يعقده عمرو موسى مع ضيفه الروسى القادم من بلاد الجمال والحرب والجليد.
ذهبتُ مبكرا إلى مكان انعقاد المؤتمر فى البهو الفسيح المحاط ببتلات الفسيفساء الزاهية المتراصة بدقة على الجدر المجاورة للقاعة الأندلسية بمقر الجامعة فى ميدان التحرير الذى سينفجر بعد نحو 7 أشهر بثورة الخامس والعشرين من يناير والتى كان أحد تداعياتها بروز قدرات لافروف وزير خارجية لا ثانى له يستطيع توسيع دائرة نفوذ بلاده، وإدارة تروس توازنات لا حصر لها من دون أن يلحقها عطب فى الإقليم.
نزل موسى من مكتبه مصطحبا لافروف الرجل فارع الطول، والذى يرتدى بذلة داكنة ورابطة عنق زاهية، ووقف الضيف على يمين المنصة، وما إن بدأ موسى فى التحدث حتى أخرج لافروف ورقة من جيب سترته الأنيقة وبدأ يدون فيها بضع كلمات، وفى كل مرة يسأل أحد الصحفيين سؤالا، يعيد لافروف الكرّة، ويدون مزيدا من الملاحظات والنقاط.
فى تلك اللحظة انصب تركيزى على ما يكتبه لافروف وبالرغم من جلوسى فى المقعد الأول بالمؤتمر على بعد نحو متر واحد منه؛ إلا أن عدم معرفتى بالروسية لم يمكننى من معرفة ما يدور برأس الرجل، وهكذا ظللت طوال المؤتمر لا أتابع أسئلة الصحفيين وردود موسى ولافروف عليها فحسب، بل أتابع ما يكتبه بشغف متزايد.
للحظة خطرت ببالى فكرة أننى يمكننى كتابة قصة كبيرة حول الملاحظات التى كتبها لافروف فى الورقة وأحدد من خلالها طريقة تفكير الخارجية الروسية، فضلا عن أولويات السياسة بموسكو فى تلك الفترة العصيبة، لو تركها على المنصة، وفى تلك الحالة سيمكننى بسهولة الاستعانة بمترجم لفك طلاسم يمين وزير الخارجية الروسى الحصيف.
انتهى المؤتمر الصحفي، وفى اللحظات التى تحدث فيها عمرو موسى عن ترحيبه البروتوكولى الختامى بالضيف، كان أن مزق لافروف الورقة إلى أربعة أجزاء ووضعها على المنصة، وبالرغم من أن قلبى كان يتقطع هو الآخر مع كل حركة منه، إلا أننى واصلت التشبث بإغراء القصة الصحفية التى أخطط لها فى ذهني.
لا أعرف بعد مُضى أزيد من ست سنوات على الواقعة، ما إذا كان لافروف قد أحس بما يدور فى نفس الصحفى الذى عمل لخمس سنوات متصلات محررا دبلوماسيا فى الجامعة العربية، أو قرأ حركات جهازه العصبى الذى كان يتوسل الفرصة لاقتناص الورقة، فبعد أن أشار له موسى لاصطحابه إلى السيارة التى تقف على بعد نحو 20 مترا من المنصة، وبعد أن تحرك معه بالفعل خطوة واحدة، استدار ثانية فى حركة خطافية، وأخذ الورقة الممزقة أربعا، ووضعها مرة أخرى فى جيب سترته ومضى.
صحيح أن لافروف ظهر على الساحة فى وقت لا وجود فيه لوزراء خارجية عِظام أمثال هنرى كسينجر أو جون سايمون أو فون ريبنتروب، وتولى منصبه فى 2004 فى وقت يسوس العالم وزراء خارجية متواضعو المواهب (جون كيرى على سبيل المثال) وهو ما أفسح له المجال كليا ليكون الدبلوماسى الأبرز دوليا؛ إلا أنه أظهر مواهب، استثنائية، لا مراء فيها ، فى الاتفاق النووى ، والأزمة الأوكرانية ، والمسألة السورية ، مهدت الأجواء لإعادة انخراط بلاده فى السياسة الدولية فاعلا وشريكا ، بعد أن ظلت لنحو 15 عاما مفعولا لا قدرة له على المبادرة والاستباق .
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة