يترقب المجتمع المصرى بقلق شديد تعويم الجنيه. فمع كل قرار اقتصادى مثل هذا تزداد موجة الغلاء المعيشية وتظهر الحكومة وتعلن أن الفقراء لن يتأثروا كثيرًا بها لأنها تعمل على حماية هذه الطبقة من ارتفاع الأسعار. هذا الاتجاه الذى يدمج البعد الاجتماعى مع القرار الاقتصادى أصبح فكرا مستقرا لكل الحكومات المصرية التى جاءت بعد ٢٥ يناير. والذى أصبح مستقرًا فى سياسات الحكومة أيضًا هو عدم تبنى أى طبقات أعلى من الفقيرة. فماذا عن الطبقة المتوسطة والتى تمثل ٣٦٪ من إجمالى المصريين؟ (حسب المركز العربى للبحوث والدراسات) إن التزام الحكومة بدعم الطبقات الفقيرة والتركيز عليها دون الطبقة المتوسطة قد يأتى من منطلق قلة الموارد الحالية التى لا يمكن أن تغطى كل المتضررين من تعويم الجنيه. وتبدو هذه السياسة منطقية إذا ما نظرنا إلى الأرقام والحسابات ولكن بالنسبة إلى النهوض بمستقبل مصر لابد من إعادة النظر فى هذه السياسة.
ما هى الطبقة المتوسطة؟ هى الطبقة ذات ثلاث شعب منها البسيط والمتوسط والعالى وهى التى ينبثق منها إحداثيات ثقافة المجتمع. فهى تحرص على التعلم ونيل الشهادات والتى تدفع بمدخراتها المتواضعة لإتاحة أحسن تعليم لأولادها. هى القوى الشرائية التى تحرك الاقتصاد اليومى للبلاد. هى الطبقة التى تحافظ على وسطية عادات وتقاليد المجتمع والتى تقاوم التطرّف المدمر الآتى من الغرب والشرق. هى القلب النابض الذى يتابع ويشارك بالحياة السياسية فيصد من يخرج عن الحس الوطنى ويحتضن من يصدق فى خدمة البلد. هى الطبقة التى تمثل الرأى العام فى مصر الذى يحرص الإعلام المحلى على استمالته والذى لا يطيق إغضابه. هى الطبقة التى تعطف على الفقراء وتملأ مؤسسات الخير بالصدقات . هى الطبقة التى يسترشد بها الفقراء للنهوض بحياتهم ويستشعر منها الأمل فى حياة أفضل.
كيف لا يلتفت إليها القائمون على البلد وهى أكثر الطبقات تضررًا من تعويم الجنيه وارتفاع الأسعار؟ الأسرة التى تنتمى إلى الطبقة المتوسطة قليلة الادخار كثيرة الإنفاق فى اتجاهات كثيرة لأنها تتطلع بشغف لتحسين صورتها المعيشية ونتيجة لذلك فهى دائمًا فى شد وجذب مع مواردها المحدودة لتغطية مصاريف حياتها المتنامية فتنجح تارة وتخفق تارة أخرى. إذا ارتفعت الأسعار نتيجة تعويم الجنيه بشكل ملحوظ تخفق الأسرة كثيرًا فى إيجاد توازن بين ما تكسبه من عملها المهنى وما تصرفه. ينتج عن ذلك الإحساس بخيبة الأمل واليأس لأنها ذاقت طعم الحياة المستورة والتى بها القليل من الاستمتاع والآن سلبت منها. ماذا نتوقع من هذه الأسرة التى بدأت تدخل حزام الفقر شيئًا فشيئًا. فإذا كنت تريد منها دفع عجلة الإنتاج بحماس فلن يحدث وإذا كنت تريدها أن تثرى المناخ السياسى والثقافى فلن يحدث. وإذا كنت تتمناها أن تلهم الأسر الفقيرة فلن يحدث. لا أدرى كيف تنهض الدول فى ظل هذا المناخ؟ هذه الأسرة مثلها كمثل القوارير يسهل كسرها إذا تركتها تقع. لابد أن تنتبه الحكومة لذلك ولكن كيف؟
تبدأ الحكومة بتوزيع بطاقات دعم على هذه الأسر التى تذهب بها لشراء مستلزماتها الأسبوعية من طعام. بطاقات الدعم هذه تخفض الأسعار من ٥٪ إلى ٢٠٪ حسب الدخل الشهرى للأسرة. ويشمل التخفيض ملابس الشتاء والصيف ووقود السيارات. وتكون هذه البطاقات صالحة فى المحال التجارية الكبرى التى ترتادها هذه الأسر. وبالقطع لن تستطيع أن تتحمل الحكومة وحدها هذه الدعم. لابد من المشاركة المجتمعية من خلال عمل صناديق خاصة للطبقة الوسطى يذهب إليها القادرون من المجتمع المصرى للتبرع لها كل شهر. ويمكن لهؤلاء المتيسرين الذهاب إلى المحال التجارية مباشرة للتبرع بأموالهم أو التواصل مع الجمعيات الخيرية. ليس بالضرورة أن ينتظم الدعم طوال الشهر فى تلك المحلات ولكن على الطبقة الغنية أن تكثر من التبرعات قرب نهاية الشهر نظرًا لجفاف موارد الأسرة المتوسطة فى تلك الفترة. والدولة حسب قدرتها المالية تسهم فى ذلك أيضًا. كلما كثرت التبرعات كلما أمكن الحفاظ على الطبقة المتوسطة من الهبوط وساعد ذلك على استدامة السلام المجتمعى بين الطبقات الثلاث. أما إذا انكسرت القوارير يصبح الشعب فى حالة استقطاب وتوتر نفسى ملحوظ بين الغنى والفقير.
بإمكان الحكومة أن تشجع على التبرع لصالح صناديق الطبقة الوسطى بإعطاء تسهيلات بنكية للمحلات التى تدخل فى هذه المنظومة والتى تساهم فى الدعم. فتوفر لهم الدولارات لاستيراد السلع وتقلل من الضرائب الواجبة على تجارتهم ولو بنسبة ٣٪ وكذلك بالنسبة لرجال الأعمال، كلما زادت إسهاماتهم أعطت لهم الحكومة أولوية فى تيسير أعمالهم.
الكلام لا ينتهى عند هذا الحد. إن أكثر جهات الصرف التى تؤرق أسرة الطبقة المتوسطة هى تعليم الأبناء وبالأخص السنوات النهائية لنيل شهادة الثانوية العامة المصرى منها والأجنبى، يقوم الأب بدفع مصاريف كثيرة للمدرسة الخاصة ثم يدفع نفس المصاريف أو أكثر للسناتر لأن أستاذ الفصل فى المدرسة ليس بنفس جودة أستاذ السنتر الذى يكسب أضعاف مرتب أستاذ الفصل. وحيث إن قيد الطالب مربوط بالمدرسة فالأخيرة لا تهتم بجودة أساتذتها ولا تهتم بحضور الطالب من عدمه. فالطالب يحضر الدرس فى السنتر وليس عنده الوقت للذهاب إلى المدرسة وتظل الفصول شبه خاوية طوال العام.
إذا قامت الحكومة بفك قيد الطالب من المدرسة فى السنة الأخيرة من مرحلة الثانوى ويصبح مقيدا عند وزارة التعليم بصورة مباشرة تنجح الحكومة بذلك فى توفير أموال كثيرة للأسرة، يذهب الطالب إلى السناتر دون تأنيب من الوزارة ويختار الاستاذ الذى يستريح له ويدفع الأب وهو سعيد مرة واحدة لتعليم أولاده ويتخلص من مصاريف المدرسة التى لا تدر عليه بأى نفع. ويمكن للمدارس أن تتحول إلى سناتر بعد الدوام الرسمى بتأجير فصولها للأساتذة الأكفاء فقط لما لهم من قدرة على جذب الطلاب.
أستاذ السنتر أو المدرسة فى هذه الحالة يصبح سعيدًا هو الآخر لأن دخله مرتبط بكفاءته المهنية وعدد الطلبة فى الفصل. والأستاذ ليس مرتبطا بسنتر واحد بل ينتقل من سنتر إلى آخر حسب سمعته فى السوق. لا يوجد حد أقصى لما يكسبه.
الوزارة تصبح سعيدة هى الأخرى لأنها ستأخذ نسبة من دخل الأستاذ فى مقابل إعطائه رخصة مزاولة المهنة فى السناتر. وبعد فترة من تجربة هذه الفكرة تمتلأ فصول المدارس مرة أخرى بطلابها ولكن بنظرية السوق الحر. شيئًا فشيئًا يلفظ السوق المهنى الأساتذة غير الأكفاء فلن يجدوا مكانا لمزاولة مهنة التدريس نظرًا لضعف إمكانياتهم فى شرح المنهج ومتابعة الطلبة. هذه المنظومة تسرى أيضًا على المدارس الحكومية التى يسهل تحويلها إلى سناتر. وينقطع راتب أستاذ من الوزارة بعد تحوله إلى أستاذ سناتر بل تأخذ منه نسبة من أرباحه التى يكسبها من نشاطه الجديد. بهذه المنظومة الكل كسبان الأب والطالب والأستاذ والوزارة.
هذه بعض الاقتراحات للحفاظ على الطبقة الوسطى من السقوط لا تكلف الحكومة الكثير ولكن تحتاج إيمانا بأهمية تنامى الطبقة الوسطى ورؤية مجتمعية جديدة تتخطى فكرة الغنى المتمتع بالتكييف والفقير المعدم بهذه الرؤية والإرادة تنهض الأمم بعد تحملها قرارات اقتصادية صعبة مثل تعويم الجنيه.
• أستاذ بجامعة مصر الدولية .
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة