حدثتنا الكتب عن الكبار، عن طه حسين، وسهير القلماوى، وشوقى ضيف، وحكت لنا عن أمين الخولى وتلاميذه، وكنت أظنه عهدا مضى برجاله وفكره وحداثته التى أشعلت النهضة المصرية فى فترة مهمة من تاريخ الوطن العربى كله، لم أكن أعرف أن القدر كان يخبئ لى نصيبا من التعرف المباشر على أثر هذه النخبة إلا بعد أن التقيت الدكتور منير سلطان.
ومنير سلطان، تلميذ أمين الخولى، رجل بلاغى تربى على تراث الأولين وسمح بقدر من الحداثة أن يدخل قاموسه البلاغى، كان دائما ما يقول نحن أصحاب «التأصيل والتجديد» فى البلاغة العربية، وهذا أمر حقيقى كان يتميز به منير سلطان، يعرف القديم لكن لا يقدسه، يعرف أن التلاميذ عليهم ألا يكونوا صورة من أساتذتهم، يؤمن بأننا فهمنا البلاغة العربية خطأ، وأنها ما زالت قادرة على منحنا الطاقة والقوة كى نصل بشخصيتنا العربية إلى بر أمان يليق بنا، لا يهاجم المعرفة الغربية لكن يتعامل معها بحذر، ليس لكونها متآمرة، لكن لأنها مختلفة سياقاتها وأغراضها وطبيعة المادة التى تتعامل معها، يدرك أن لعلوم البلاغة دورا فى رقى المجتمع، وكان هو وتلاميذه يقومون بهذا الدور ولا يتأخرون عنه.
منير سلطان، رجل سكندرى أحبه البحر، فمنحه روحه وجعله إنسانا جميلا محبا للمرح، وربما الذين كانوا يعرفون ظروفه، وأنا منهم، يتعجبون من قدرته على الاستخفاف بالحياة، ورغبته الدائمة فى المرح وجعل الابتسامة عنوان شخصيته، فهو يشبه البحر فى أشياء كثيرة فى «طيبته وفى حبه المتأصل للناس فى عطائه ورد فعله غير المتوقع فى إثارته للبهجة طوال الوقت، فى كثرة علمه وامتداد شاطئه، فى احتوائه، فى كرمه، فى ثورته وغضبه».
بعد لقاءين مع منير سلطان سيقول لك «أنت ابنى»، ويدعوك لزيارته فى الإسكندرية فى بيته وهناك «بلهجته السكندرية» يصر على أن «تأكل نصيبك من الطعام كاملا»، كأنك طفل يجلس أمامه، لا ينتظر منك شيئا لكنه يحدثك عن أساتذته الكبار وكيف كانوا يتعاملون معه بهذه الطريقة الكريمة، يؤمن بأن هذه هى العلاقة القويمة بين الأستاذ وتلميذه، يؤمن برحم العلم الذى ينجب أخوة لا ينقطع حبلهم.
مات منير سلطان، تاركا علما عن البلاغة ورجالها وعن شوقى والمتنبى، وعن المعنى الحقيقى للأستاذية، وعن جيل من أساتذة الجامعة كانوا يعرفون دورهم المجتمعى ورسالتهم فى الرقى، سوف يفتقده الجميع وستفتقده شوارع الإسكندرية، وسيتلفت البحر عن رجل كان يشبهه ولن يجده.