أمام مدخل قرية الديرس التابعة لمركز أجا فى محافظة الدقهلية، على الطريق الزراعى السريع، تجلس فريدة، الفتاة السمراء، متقنة الملامح، ذات العشرين عاما، على كرسى متهالك، خلف فرن صغير بجوار أسطوانة بوتاجاز تشوى الذرة لزبائنها من سائقى التوكتوك وسيارات النقل، ونادرا ما تصادفها سيارة ملاكى يقف راكبها لتذوق الذرة الحلبية المقطوفة توا من الحقل.
كنت فى زيارة عائلية إلى محافظة الدقهلية، يوم الأربعاء، 28 سبتمبر، وتشاء الأقدار أن أقابل فريدة تلك المصرية المكافحة بحق، والتى لا يعرفها بالتأكيد هوانم المجلس القومى للمرأة اللواتى يظهرن على شاشات التلفزيون، ويتحدثن باستمرار عن معاناة المرأة وضرورة حصولها على منصب محافظ أو وزير.
فريدة فتاة من الريف، قالت لى إنها تعمل منذ أن كان عمرها 9 سنوات؛ لأن العمل بالنسبة لها ليس رفاهية ولا ترفا ولا تحقيقا للذات؛ فبدلا من أن تتسول من أقاربها ما يبقيها على قيد الحياة، قررت أن تواجه الدنيا بنفسها، وتحفظ كرامتها بكدها وعرقها، بذرت الزروع فى الغيطان، وأحصت القمح فى البيادر، وغسلت القنينات الفارغة فى مصانع الزجاج، ونظفت سلالم البيوت، وبالتأكيد لم تسلم من مضايقات الشبان والمراهقين ولا من تحرشاتهم لفظا وفعلا.
أكثر ما أدهشنى فى حديثى مع فريدة الذى لم يدم أكثر من خمس دقائق، إذ طلبت منى الانتظار لحين تسوية الذرة، فلسفتها شديدة العمق فى الحياة، فعندما سألتها عن طريقتها فى التعامل مع تلك المضايقات، قالت: "بنات الناس مش بردو الشبان بيضايقوهم وهما فى الجامعة وفى الشارع وفى كل مكان.. أنا كمان بيضايقونى بس أنا قاعدة لوحدى فى البرد على طريق ما يعلم بيه إلا ربنا، كل إللى بعمله إنى مش برد على حد لأنى بحس أن إللى بيعاكسنى بيرتاج لما بيقول كلمته فبسيبه يرتاح".
المؤكد أن فريدة تلك التى ذبّلت الحياة شبابها فى رياعنه، ويبّست فيها جمالا لم تأخذ نصيبها من الحظوة، لم تدرس نظريات الفلسفة المتعالية Transcendentalism لبرونسون آلكوت، ولم تطلع كذلك على إسهامات برتراند راسل فى نقد الاجتماع البشرى، لكن نظرتها التجريبية للحياة، عميقة وأعمق بكثير من تجربة مسؤولات تنفيذيات يتحدثن كثيرا عن البذل والعطاء من أجل الوطن، وفى أول اختبار مع الحياة يحصلن على "صفر وطنية".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة