يبدع أنيس منصور فى التقاط القلق.. الخوف.. الحيرة.. من شرق الكوكب أو غربه.. شماله أو جنوبه، وإلقائه إلى القارئ ليشتركا معًا فى أرق طويل حول جدوى الحياة ومعناها، فمن بين كل ما يمكن تقديمه من آداب الغرب، ينقل مناجاة سجلها أديب إيطالى وهو يتأمل البحر المتوسط أمامه: لو أن هذه المياه كلها دموع تجرى من عينى على خدى إلى الأبد، فإننى حزين على نفسى، لا أعرف لماذا خلقنى الله، أو إننى أعرف، ولكننى لا أجد حكمة لذلك، أو إننى أعرف الحكمة ولكنها لا تقنعنى، أو أنها تقنعنى، ولكنى لم أفلح فى إقناع أحد أن وجودى على الأرض ضرورة كونية!
ومن يستطيع أن يقنع أحدًا بأهميته إلى هذا الحد؟.. هل بسبب تلك الكلمات الحائرة انشغلت طويلاً بقيمة وجدوى الحياة، ثم الانتحار.. ربما.. انشغلت بقرار الخروج من الحياة.. المغادرة، لم يستشيرنى أحد هل أريد أن أكون هنا أم لا؟ .. فلماذا لا تكون العودة قرارى.. وفكرت أن أكتب موضوعًا عن الانتحار أسأل فيه طلبة الجامعة الذين أنتمى إليهم.. وتوقعت أنى لن أجد أحدًا يفكر فى الانتحار فى هذا العمر، لماذا يفكر فى إنهاء حياة قبل أن تبدأ.. وبدأت العمل ووجدت بعض من فكر بالفعل، ووجدت من حاولت الانتحار أكثر من مرة، وتوقفت فقط لأنها تشفق على أمها، وهناك من يمنعهم الخوف مما بعد الموت، إذاً هناك حمقى مثلى، بل هناك من هم أكثر حماقة لم يكتفوا بالانشغال فقط بل قرروا التجربة.. وتوقفت.. ولم أكمل الموضوع.. اكتفيت بالاطمئنان أنى لست وحدى.. كان هذا حالى مع "صندق دنيا" أنيس منصور.. عندما يفتح قلبى وعينى وعقلى على الدنيا.. معه أنت دائمًا تتساءل.. تبحث فى المسكوت عنه.. أو المُسلم به.. لأنك لا تعرف كيف.. ولا متى.. ولا أين سلمت به.
وعرفت بعدها من أنيس منصور أن العقاد حاول الانتحار، وتراجع فى آخر لحظة، وأنيس نفسه حاول فى طفولته، وكان يعتبر موت سقراط أقرب إلى الانتحار، فاختار أن ينفذ حكم الإعدام فى شكل انتحار، وأن يشرب السم بإرادته.
والقاضى ساج أيضًا انتحر.. انتحر بعد أن حاول فرض عدالة الأرض على السماء.. ولم يستطع.. فى مسرحية "حكم القاضى ساج" للأديب الإسبانى الساخر أرنولد ديات؟
يحكى أن عمدة قرية توفى، فدخل النار فأتى لزوجته فى الحلم، وطلب منها أن تستأنف حكم دخوله النار أمام القاضى ساج، وذهبت الزوجة وقدمت للقاضى دلائل على طيبة زوجها، وتبرعه للفقراء، وبنائه الكنائس، فصدر حكم القاضى ساج بنقله إلى الجنة فورًا، وأرسل موظف إلى السماء لتنفيذ الحكم، وذهب الموظف ودق أبواب السماء ليبلغ قرار القاضى ساج، وخرج مَلَك الجنة ورأى الحكم، وقال سأذهب لأسال، وأعود إليك.. ثم عاد فقال له الحكم صحيح، ولكن سوف يتم تنفيذه بعد ألف مليون مليون سنة يقضيها العمدة فى جهنم، فقال الموظف إن الحكم واجب التنفيذ الآن.. فرد المَلَك أن الآن عند أهل الأرض غير الآن فى السماء كما أن هذه هى المدة التى يحتاجها ليصل إلى مكان العمدة فى النار لينقله إلى الجنة، وازداد الخلاف بينهما، فأرسل القاضى ساج موظفًا آخر يحمل حكم المحكمة بتغيير حارس الجنة، لأنه يعوق سير العدالة، وبينما يقف الموظفان على باب السماء فى انتظار تنفيذ السماء لعدالة الأرض يصعد إليهما موظف ثالث يبلغهما بإلغاء الحكمين السابقين، فقد انتحر القاضى ساج فقال مَلك الجنة الحمد لله سوف يجلس القاضى ساج على يمين العمدة فى جهنم.. انزلوا.. انزلوا.. وأغلق الباب.
وفى كتابه -آخر 200 يوم مع أنيس منصور- سأله د.مجدى العفيفى: ماذا تقول لربك غدًا إذا لقيته؟
فرد أنيس منصور سأقول له: أنت الله، لا شريك لك، ما أعظمك!
يارب أنا تعبت.. وجلالك وعظمتك وحكمتك وأبهتك.. تعبت.. على يمينى عشرون مذهبًا فى الفلسفة، وعلى يسارى عشرون مذهبًا فى الدين، وورائى حروب الصليب والهلال.. تعبت.. يارب أريد أن اهتدى إليك.. بك إليك بنورك على ظلام نفسى.
سألنى صديق.. كيف تحملين كل هذا الإعجاب لعدو المرأة الأشهر؟
ورددت ببساطة لأنه ليس عدوًا للمرأة، كان صريحًا أحيانًا، صراحته جارحة، لكنها لم تكن أبدًا عداءً، فأنيس منصور يرى الرجل فى مواجهة المرأة أربعة أنواع: أعداء.. خصوم.. أنصار.. عشاق.
أعداء المرأة هم أعداء الإنسانية كلها، وأعداء للحياة، وهم عادة أناس مشوهون جسميًا وعقليًا.
أما خصومها فهم أكثر الناس حيادًا مع المرأة، وهم ينظرون إليها بعقل، والمرأة لا تحب أن ينظر إليها الإنسان بعقل، لأنها لا تعرف إلا أن يكون الإنسان عدوًا أو حبيبًا، وخصوم المرأة، كالعقاد والحكيم ونجيب محفوظ.
أما أنصار المرأة فهم من يدفعونها إلى الحرية، والعمل وتحمل الأخطاء فى تجاربها الجديدة، كطه حسين وسلامة موسى.
أما عشاق المرأة فهم الحريصون على أن تظل المرأة كتلة من اللحم الحى، وأن تظل ألعوبة فى يد الرجل.
ويرى أن أعداء المرأة وعشاقها لا فرق بينهما، فأعداء المرأة يرونها شيئًا كريهًا، وعشاقها يرونها شيئًا لذيذًا، فجميعهم يرونها "شيئًا" يقبلون عليه أو ينفرون منه كل حسب ذوقه.
وعن جمال المرأة يقول أنيس منصور..لأسباب شخصية، لأسباب فلسفية تابعت أخبار صوفيا لورين إنها جميلة، وأنا أحب الجمال، وأرى أن الجمال الإيطالى هو الجمال: اللون والطول والعينان والسيقان، وكله متوافر عند صوفيا لورين، فكيف لا أراها أجمل ما فى دنيانا!
ويحكى مقابلة له معها فى مهرجان فينيسيا وتكلم إليها لأنه يجيد الإيطالية
-سألتنى: أنت سعودى.. فقلت: نعم
فقالت: بترول.. فقلت لها: دولارات
-عندك جوارى.. قلت لها: سوف يكون عندى
-كم واحدة؟
-المناسب لى سبع جوارى.. من إيطاليا أربع.. وواحدة من إنجلترا.. وواحدة من فرنسا.. وواحدة من ألمانيا
قالت: لماذا هكذا؟
قال: الإنجليزية تربى الأولاد.. الفرنسية تشترى لى ملابسى.. والألمانية تدير البيت والصحة والعلاج.. أما الإيطاليات فأنت تعرفين!
-فضحكت وقالت شكرا جزيلا
طبيعى أن تشكره، وطبيعى أن تضحك ربما خجلا أو امتنانًا لأنه رجل يفهم –من وجهة نظرها- جيدًا فى النساء، فهذا الثرى العربى- كما تظن- قد فضل بنات بلدها الإيطاليات على كل حسناوات أوروبا، فوضع الإيطالية داخل قلبه وفوق سريره، والباقيات حوله.
..هل غضب يومها صاحب المكتبة؟ أعتقد ذلك فأنا من سألت عن هذا الكتاب بالذات، وبعد أن بحث عنه ووجده، وفاصلته كثيرًا فى ثمنه، وبعد أن أصبح بين يدى، أعادته إليه بهدوء شديد معلقة باقتضاب: لا أريده.. لم يكن به عيب، ولم يكن قديمًا جدًا كعادة بعض الكتب فى سور الأزبكية، كانت نسخة بحالة جيدة جدًا تستطيع أن تعتبرها عزيزى القارئ -استعمال طبيب- كما يقولون، ولكنى تشددت فى الرفض، وحاولت بعدها أن أعوض البائع بشراء أى كتاب آخر لأنيس منصور غير كتاب "جمال عبد الناصر المفترى عليه والمفترى علينا".. أحب عبد الناصر، وأحب أنيس منصور، ولم أكن وقتها فى بداية الألفية -التى كانت جديدة وقتها- أستطيع أن أقف حكما بينهما.. لن أستطيع.. لن أجيد لعب دور الناقد المحايد..
أنيس منصور يصف كتابته: أقوم بتفصيل الألفاظ على قدر المعانى، وكانت عباراتى مثل فساتين ضيقة شفافة تغطى المعانى، وتفضحها أيضًا، وأعرف أن ألفاظى محزقة ملتصقة بالمعنى.
وبعد سنوات عندما قرأت كتابه عن جمال عبد الناصر، أظن أن فساتين "أنيس" فى هذا الكتاب كانت أكثر ضيقًا من شخص عبد الناصر، فالعنوان يوحى أنه سيقول ما على الرئيس وما له، ولكنه لم يقل إلا قليل جدًا ما عليه فقط.. واكتفى، وغضب الناصريون، وليس غريبا فهم دائمًا يغضبون ممن يقترب من الزعيم بالنقد، فما بالك إن اقترب بالتجريح والغمز واللمز والتجاوز أيضًا، أقرب صديق للسادات.
الكتاب ليس نقدًا لعهد عبد الناصر بقدر ما هو غضب منه لموقف بين الكاتب والرئيس، عبد الناصر فصل أنيس منصور من العمل بأخبار اليوم والجامعة عام 1961 بعد نشره مقالاً بعنوان حمار الشيخ عبد السلام، وكان به كثير الإيحاءات والإسقاطات الواضحة كما أكد أنيس نفسه، وقال إن ما كتبه كان صورة لأعماقى الغاضبة الساخطة على الذى أصابنا جميعًا.
أما الذى أصابهم فكان تأميم الصحافة، ووضع رقيب فى كل مؤسسة صحفية، الرقيب الذى وصفه أنيس بأنه موظف قد يكون على درجة صول يحق له أن يحذف أو يعدل على أى شىء بدءًا من مقال الأستاذ محمد التابعى وصولاً إلى أصغر صحفى بالمؤسسة، أى عبث أكثر حزنًا من هذا الوضع، الحقيقة أن عنوان الكتاب أكبر كثيرًا من الكتاب نفسه، فبعد البداية النارية الغاضبة ضد عبد الناصر تحول الكتاب إلى شرح ملابسات الفصل ثم العودة ثم الإيقاف عن العمل ثم أهمية الحمار فى حياة الإنسان وفى النهاية مذكرة مصطفى أمين للرئيس لتوضيح موقفه أثناء محاكمته فى قضية التخابر الشهيرة.
عبد الناصر لم يتجاوز حضوره فى الكتاب أكثر من صورة كاريكاتورية على الغلاف، ثم أقل القليل عنه بعضها كان تجاوزًا، قد يكون دافعه الغضب، فليس قليلا على أستاذ جامعة وصحفى مرموق بدرجة رئيس تحرير أن يجد نفسه فى الشارع بلا عمل فجأة ودون مبرر.
فى رأيى لم يكن الحضور اللافت لعبد الناصر بل لعلى أمين.. رقيقًا.. طيبًا.. بشوشًا.. رفيقًا بأنيس منصور بعد فصله من العمل فى المرة الأولى وإيقافه فى المرة الثانية، قابله بود وحرارة، وكأن شيئًا لم يحدث، وقال له: ولا يهمك.. كل هذه أشياء سوف تنتهى.. يجب أن تفرح بالمشاكل والهموم.. لأنك سوف تكتب عنها.. فالرئيس عبد الناصر يستحق الشكر.. لأنه اختار لك موضوعات لكتب سوف تنشرها بعد ذلك.. وسوف يذهب هو ونبقى نحن.. صدقنى.
وفى خلال الأزمة فكر أنيس فى السفر للخارج، وبالفعل رتب للهروب بعد التضييق عليه، وكان الترتيب بعلم وحضور عبد الحليم حافظ، وأخبر "حليم" على أمين بنية "أنيس" فما كان من "على" إلا أن أتصل بأنيس منصور وطلب حضوره فورًا، ولما جاء مد إليه المصحف ليقسم أنه لن يسافر إلى أى مكان، لن يترك البلد، وقال له: "لما أموت أبقى أعمل ما بدالك" وأقسم أنيس، وأغلق ملف الهروب نهائيًا.
ويقول أنيس عن التوأم أنه فى بداية العمل معهما لو يكن هو وزملاؤه يميزون بينهما، ولكن مع الوقت عرفوا أنهم إذا تتبعوا فتاة جميلة تدخل أخبار اليوم فسيجدون أنفسهم فى مكتب مصطفى.. أما إذا اقتفوا أثر أرملة تجر أطفالاً خلفها، فسيجدون أنفسهم فى مكتب على أمين.
وقال أنيس منصور قبل وفاته وفقا لشهادة د. مجدى العفيفى عندما سأله عن موقفه من عبد الناصر: "أحسست أنى زودتها شوية، وأيه يعنى فصلى من العمل سنة.. هذه ليست نهاية العالم، وما ذنب الرجل، وقد تجنيت عليه، وغاليت فى بعض الأمور، فكل إنسان له سلبياته وايجابياته، وكل حاكم له منجزاته، وإخفاقاته، وعبد الناصر له وعليه.. لدى شعور أنى ظلمت الرجل إلى حد ما".. كنت أتمنى ألا ينطبق على كلماتى تلك.. قول فولتير الذى عرفتنى به منذ سنوات: "كلمة واحدة رقيقة أصغى لها حيا، خير عندى من صفحة كاملة كلها تمجيد فى جريدة كبرى حينما أكون مت ودفنت" .. ولكن عذرى الوحيد أنى بدأت "محاولة" الكتابة بعد رحيلك..
سلام ورحمة على من آنس كثيرا من أيامى.. الأنيس دائما.. أنيس منصور
عدد الردود 0
بواسطة:
الشعب الاصيل
بحب
بحب الناس الرايقه اللي بتضحك علطول
عدد الردود 0
بواسطة:
الشعب الاصيل
بحب
بحب الناس الرايقه اللي بتضحك علطول
عدد الردود 0
بواسطة:
فكرى الفساخ
تحياتى لك يا أستاذه سهيلة فأنت فيلسوفة جميلة
انا عاشق للأستاذ المرحوم باذن الله انيس منصور . وقرأت جميع كتبه وكتب الاستاذ العظيم المفكر التقدمى سلامه موسى .
عدد الردود 0
بواسطة:
جحا
مقال اكثر من رائع
اعادنا الي الزمن الجميل
عدد الردود 0
بواسطة:
الاسكندراني
....عفوا ..عفوا ..أشكرك استاذه سميه فوزي .