د. عباس شومان

التجديد والتراث

الجمعة، 18 نوفمبر 2016 11:00 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كثيرًا ما يُتهم التراث بأنه السبب الرئيس لكثير من المشكلات الواقعة فى بلاد العالم الإسلامى، وخاصة تلك المتعلقة بالتطرف والإرهاب. ولما كانت المناهج التعليمية فى الأزهر الشريف تعتمد اعتمادًا كبيرًا على التراث، فإنها حاضر لا يغيب فى نقد المنتقدين لتراثنا الإسلامى، ونحن فى الأزهر الشريف مع تقديرنا واعتزازنا الشديد بتراثنا الخالد لا نقول بعصمته ولا ندعى سلامته من المدسوسات التى لا ينبغى أن تكون بين طياته، ونقول دائمًا، وبكل وضوح، إن المقدس عندنا هو كتاب الله تعالى والسنة النبوية الصحيحة، فكلاهما ليس من حق أحد، ولا ينبغى له أن يشكك فى حرف ولا فى حركة إعرابية مما نُقل منهما بطريق التواتر.
 
ومع ذلك، فنصوص القرآن والسنة الصحيحة تنقسم من حيث الدلالة إلى قسمين: قسم قطعى فى دلالته، وهذا لا يقبل اجتهادًا من أحد مهما بلغ من العلم، وهو المراد بقولهم: «لا اجتهاد مع النص»، فآيات الصلاة والصوم والزكاة والحج تدل دلالة قطعية على فرضية هذه الأركان، ومن هذا النوع آيات القتل لمعصوم الدم، والسرقة، والخمر، والإفساد فى الأرض، والبغى، وأكل أموال الناس بالباطل، والربا.. فهذه الآيات ناطقة بالتحريم القطعى، ومنه أيضًا ما يفيد التخيير ولا يلزم بفعل أو ترك كحل البيع، وإباحة الصيد البرى بعد التحلل من الإحرام، وتوثيق الدَّين بالكتابة أو الرهن، وإن كان هناك اختلاف فى نوع التخيير بينها، حيث يشمل التخيير ثلاثة أحكام من جملة الأحكام التكليفية، وهى الإباحة والندب والكراهة، ولذا لم يختلف الفقهاء، مع ما بينهم من خلاف فى كثير من المسائل الفرعية، فى دلالة هذا النوع من الآيات على أحكامها؛ وذلك لورودها بصيغ لغوية لا تقبل تعدد المعانى المستفادة منها. وأما القسم الثانى من نصوص كتاب الله وسنة رسوله، صلى الله عليه وسلم، فهو ظنى فى دلالته؛ أى ورود نصوص هذا القسم بصيغ تحتمل أكثر من معنى، ومقصود هذا اختلاف العلماء فى تفسير هذه النصوص واستنباط الحكم منها، وذلك من باب التيسير على المكلفين، ومن هذا النوع قوله تعالى فى آية الوضوء: «وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ»، فدخول الباء التى تكون عند اللغويين زائدة من حيث المعنى ولا تفيد شيئًا أحيانًا، وأحيانًا أخرى تكون عاملة وتفيد التبعيض، جعل الفقهاء يختلفون فى الممسوح من الرأس بين من قال بمسح الرأس كله باعتبار الباء غير عاملة، ومن قال بمسح بعض الرأس على الاعتبار الآخر. ومن هذه النصوص قول الله تعالى فى عدة المطلقة: «وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ»؛ وذلك لأن لفظ «القرء» يطلق لغة على كل من الطُّهر والحيض، فبالحيض أخذ بعض الفقهاء وبالطُّهر أخذ بعضهم الآخر، ومن ثم كان الاختلاف فى مدة العدة التى تحل بعدها المطلقة للزواج. وهذا القسم ظنى الدلالة لا حرج على من امتلك أدوات النظر والاجتهاد من قدح زناد فكره فيه بعد اطلاعه على ما ذكره السابقون حوله، ولا إنكار عليه إذا توصل إلى معنى جديد يناسب الزمان والمكان ولا تأباه قواعد اللغة ولا يتصادم مع ما أفادته نصوص أخرى قطعية الدلالة فى ذات الموضوع، وهذا لا يخل بقدسية كتاب الله تعالى والسنة النبوية الصحيحة، وذلك لأن نصوصهما ظنية الدلالة وردت كذلك لتقبل الاجتهاد بما يناسب الزمان والمكان وأحوال الناس، ولو كان المراد ثبوت أحكامها لوردت بصيغ قطعية فى دلالتها كما هو الحال فى النصوص قطعية الدلالة.
 
أما كتب التراث الإسلامى من تفسير وحديث وفقه وغيرها، فهى نتاج عقول بشرية غير معصومة، ولذا فإن ما ورد فيها إن كان قطعى الثبوت والدلالة فلا مجال للاجتهاد فيه، وهو مقدس نسبة إلى أصله الذى هو قرآن أو سنة صحيحة، وإن كان ما فيها غير مقطوع بثبوته فلا حرج من الاجتهاد فيه لاستنباط الأحكام المتعلقة بموضوعه ولو جاءت الأحكام مغايرة لما دلت عليه السنة الضعيفة، شريطة أن يكون المجتهد أو المجدد مؤهلًا للاجتهاد والنظر وملمًّا بشروط الاجتهاد وملتزمًا بضوابط النظر. ويلزم السالك فى هذا الدرب عدم تسفيه رأى المجتهدين قبله أو التعرض لذواتهم، وما عليه إلا ترك اجتهاداتهم التى ناسبت زمانهم والجد فى النظر حتى تكون أحكامه المستنبطة مؤيدة باستدلالات ترجح صحتها، وليس بالضرورة إثباتها بيقين، وذلك لأن غالب أحكام الفروع من المظنون وليس المقطوع، وهو يكفى لامتثال المكلف. أما المدسوس فى كتب التراث من الإسرائيليات والأحاديث الموضوعة على رسولنا الكريم، صلى الله عليه وسلم، والآثار المكذوبة على صحابته رضوان الله عليهم، فهذه لا قداسة لها ويجب إهمالها وكشف زيفها، ومن ذلك زعم الحرق أو الذبح ونسبة ذلك إلى بعض الصحابة كذبًا وزورًا والربط بينه وبين ما ترتكبه داعش وأخواتها اليوم من جرائم.
 
ومع تثمين دعوة من ينادون بتنقية التراث من هذه المدسوسات، إلا أنها فى الحقيقة دعوة غير قابلة للتطبيق على أرض الواقع، وذلك لعدة أمور منها: أن كتب التراث ليست ملكًا لمؤسسة بعينها حتى تملك حق التصرف فى محتواها، وإنما هى ملك للأمة بأسرها، ويصعب اتفاق الأمة على عمل كهذا على فرض إمكانيته. والثانى: أن تتبع هذه الجزئيات فى هذا الكم الهائل من كتب التراث يستغرق أعمار أجيال لإنجازه إن كان ممكنًا، ولسنا فى حاجة لتذليل صعوبات يتعذر تذليلها، كما أننا ليس لدينا رفاهية الانتظار لعدة عقود من العمل لتخليص تراثنا مما دُسَّ فيه، والأيسر من ذلك، فى ظل ما تعانيه الأمة اليوم، مراجعة ما كتبه سلفنا الصالح حول هذه الروايات المدسوسة والأخبار المكذوبة؛ حيث خلفوا لنا كتبًا وعلومًا تنبه عليها وتكشف زيفها، ومنها الكتب المصنفة فى علوم مصطلح الحديث والرجال والجرح والتعديل وغيرها، والمصنفات التى جمعت الأحاديث وميزت صحيحها من ضعيفها من موضوعها، وما علينا إلا أن نهتدى بهم إن أردنا السلامة والنجاة من ضرر هذه المدسوسات، وذلك بمعرفتها ومن ثم تجاهلها والتمسك بالصحيح المغنى عنها، فمن غير المعقول ولا المقبول ترك درر التراث وكنوزه التى لا يمكن أن يستقيم حال عباداتنا أو حتى معاملاتنا وأخلاقنا إلا باتباع هديها، بذريعة هذه المدسوسات التى يمكن كشف زيفها وتجنب أضرارها.









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة