د. مجدى عاشور

تجديد التفكير الدينى

السبت، 19 نوفمبر 2016 09:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

(12) اختلال المفاهيم
 

إن المفاهيم هى المدخل الأول لتحديد العلوم أو المجالات المختلفة، سواء أكانت متعلقة بعلوم الشريعة أو العلوم الإنسانيَّة أو الاجتماعيَّة أو التطبيقية، أو فى المجالات التى تطبق فيها تلك العلوم، وتعطى هذه العلوم آثارها الصحيحة بقدر وضوح مفاهيمها لدى القائمين عليها والمتخصصين فيها، وكذلك تكون المجالات مطابقة للعلم الصحيح إذا صحت المفاهيم التى تنطلق منها هذه المجالات، فإن لم تتوفر المفاهيم الصحيحة فيهما أدى ذلك إلى خلل كبير، بما يترتب عليه من خطر، سواء على الفرد أو المجتمع أو بنى الإنسان، وفقا للعلم أو المجال الذى حدث فيه ذلك الخلل.

 

ومن الجَلِى أن معظم المشكلات التى تواجه العالم الآن خاصة هى مما يتعلق بالثقافة أو الفكر أو الدين، وهى المجالات التى أدى وقوع الخلل فى بعض مفاهيمها إلى ما نشاهده الآن من صراعات فكرية تحولت إلى مصادمات جسدية إلى حد القتل والتدمير، وكانت البشرية فى غنًى عنها لو اتضحت تلك المفاهيم ولأصبح العالم أكثر تعاونًا وتكاملًا وسلامًا وأمانًا.

 

وقد لفت القرآن الكريم إلى أهمية تحديد المفاهيم وخطر الوقوع فى التحريفات والتلبيسات التى تقع فى بعضها، وهو ما يمكن أن نسميه «اختلال المفاهيم»، فأشار لنا فى بعض آياته إلى هذا الخطر وما يحمله من فتنة، فقال سبحانه وتعالى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا﴾[البقرة : 104].

 

ذكر المفسرون أن: قوله (راعِنا) من المراعاة، وهى المبالغة فى الرعى بمعنى حفظ الغير، وإمهاله، وتدبير أموره، وتدارك مصالحه، وكان المؤمنون يقولون لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا حدثهم بحديث راعنا يا رسول الله، أى: راقبنا وانظرنا حتى نفهم كلامك ونحفظه، فتلقف اليهود هذه الكلمة لموافقتها كلمة سيئة عندهم، وأخذوا يلوون بها ألسنتهم، ويقولون «راعنا» يا أبا القاسم، يظهرون أنهم يريدون طلب المراعاة والانتظار، وهم يريدون فى الحقيقة الإساءة إليه - صلّى الله عليه وسلّم - إذ إن هذه الكلمة عبرية كانوا يتسابون بها، يقصدون جعله راعيا من رعاة الغنم، أو من الرعونة التى هى الحمق والخفة، فنهى الله تعالى المسلمين عن استعمال هذه الكلمة حتى لا يتخذها اليهود وسيلة إلى إيذاء النبى صلّى الله عليه وسلّم والتنقيص من شأنه.

 

ويبدو أن "اختلال المفاهيم" داء يصيب الأفراد وبعض الفئات فى غالب العصور، خاصة إذا لم يقم المتخصصون بدورهم المنوط بهم، أو كَثُرَ الجهل وأصبح لأهله صوت يجد آذانا تصغى إليه، ويظل الأمر هكذا حتى يفيق أهل الحق ويستيقظ ذوو التخصص، فتعود الجرذان إلى جحورها، وتترك الساحة لأهلها : ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾[الأحزاب : 62] .

 

وقد انتاب بعض النصوص الشرعية شىء من: "اختلال المفاهيم"، حتى حوَّلَها أصحاب الفكر العقيم من مصابيح أنوار إلى شررات من نار، يكتوى بها أصحابها دون أن يشعروا، ويرمون بلهيبها غيرهم وما رحموا، ومن أكثر النصوص التى أصابها ذلك العوار، وأتت على سلامة الأفراد والمجتمعات بالخراب والدمار، ذلك الحديث النبوى المشهور، الذى تلوكه ألسنة المتشددين، ويستدل به القَتَلَةُ المتمسحون بالدين، والذى يقول فيه نبينا العظيم صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّى دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الإِسْلاَمِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ" (رواه البخارى ومسلم).

 

لقد استدل المتشددون بفهمهم السقيم وفكرهم العقيم بهذا الحديث على قتل واستحلال دم أى امرئٍ لم يدخل فى دين الإسلام، وتشبثوا بذلك الفهم لظنهم أن فيه قوة للدين، وتخويفا للآخرين، غافلين عن أصل الرسالة ومنبع النبوة هو قوله سبحانه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء : 107]، وقوله عز وجل : ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِى الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾[يونس : 99 ]، وغير ذلك من الآيات المحكمة التى تدل على عدم إرغام أحد على الدخول فى الإسلام؛ إذ الإسلام غنِى بنفسه، محفوظ مِن قِبَلِ ربه.

 

ولكن سنُعَرِّج على بيان مفهوم ذلك الحديث المذكور الذى استدل به مستحلو دماء الأبرياء، من خلال لغة الحديث نفسه ووعن طريق القواعد الضابطة لفهمه، كما تعلمناه فى علم " أصول الفقه" و"قواعد تفسير النصوص"، فنقول:

 

أولا: قال صلى الله عليه وسلم فى مستهل الحديث: "أُمِرْتُ" ولم يقل (أُمِرنا) ليبين أن هذا الأمر الجلل والخطير، وهو الحرب والقتال، إنما أمره إلى الحاكم ومؤسسات الدولة المعنية بالحرب ويعاونها من كان له دراية بذلك من مؤسساتها ويكون تحت رايتها؛ ولذلك ورد التعبير بتاء الفاعل فى آخر الفعل "أمرتُ" دون الإسناد لناء الفاعلين "أُمرنا"، والإسناد لتاء الفاعل ليختص هذا الأمر بالحاكم وحده مع مؤسساته دون الأفراد أو الجماعات، ومما يدل على هذا المعنى أن النبى صلى الله غليه وسلم له تصرفات متعددة فى تعامله مع مَنْ أُرْسِلَ إليهم، وكما ذكر الإمام القرافى فى كتابه (الفروق)، فهو يتعامل معهم باعتباره نبيًّا فى ما يُوحَى إليه، وكذلك باعتباره حاكما وقائدا قى ما يخص الرعية، وباغتباره قاضيًا فى الفصل بين المنازعات والأطراف المتخاصمين أمامه وإلزامهم بما يحكم به، وباعتباره مفتيًا فى بيان الحكم الشرعى دون إلزام. وهو فى الحديث الذى معنا، وفى حالة القتال والدفاع عن البلاد والعباد يتصرف بصفته حاكما وقائدا، أى يرجع الأمر إليه وحده فى هذا الشأن دون أحد من الناس سوى من يستعين هو بهم.

 

ثانيا: قال فى الحديث: "أقاتل" ولم يقل: (أقْتُل)؛ إذ الأولى فيها مفاعلة، بمعنى أن المعتدى يبدأ بالقتال فندافع عن أنفسنا بجنس ما يعتدى به علينا وهو القتال، فى حبن أن التعبير بالقتل قد يعنى أننا البادئون بالقتال، والأمر ليس كذلك، بدليل قوله تعالى : ﴿وَقَاتِلُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾[البقرة : 190].

 

ثالثا: أن كلمة "الناس" فى الحديث ليس المراد بها كل من يخالف المسلمين فى الاعتقاد، بل المراد بها مشركو مكة وقتها بوصفهم محاربين ومعتدين ومؤذين دائما للنبى صلى الله عليه وسلم ولصخابته الكرام رضى الله عنهم، بدليل الرواية الأخرى التى بيَّنت معنى الناس هنا، وهى قوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل المشركين.." (رواه أبو داود والنسائي). ومعنى قتالهم حتى يقولوا الشهادتين ويُؤدوا الأركان المراد منه الخضوع والاستسلام؛ إذ قد جرَّبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخَبَرَهم فعلم منهم الغدر والخيانة والاعتداء.

 

رابعا: صح عَنْ جَابِرٍ بن عبد الله أن رسول اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَدْ عَصَمُوا مِنِّى دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ "، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ. لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ ﴾[الغاشية: 21-22] (رواه الإمام أحمد) . وتذييل الحديث وختامه بهاتين الآيتين دليل على أن القتال للدفاع وليس المبادأة بالاعتداء، أى : إنك تقاتلهم يا محمد لأنهم اعتدوا عليكم، وليس لإدخالهم فى الإسلام؛ لأنك مُذَكِّر بالله وبدينه الحق، ولست مصيطرا عليهم لتكرههم على الإسلام.

 

هذا مثال واحد على حالة "اختلال المفاهيم" التى سيطرت على عقول المتشددين والمنحرفين، حتى انتهى بهم الأمر إلى تصدير صورة مشوَّهة ومشينة عن الإسلام والمسلمين فى الداخل والخارج، ليستغل الحاقدون وذوو النفوس الضعيفة ذلك الفهم السقيم من تلك الشِّرْذِمة المريضة لترويج وإشاعة أن الإسلام دين الإرهاب، ووجدوا فريستهم التى تساعدهم سهلة المنال، ولكن التفكير المستقيم لن يتركهم حتى يبين لهم ما هم فيه من وَهْمٍ وخَبَال، تحقيقًا للسُّنَّة الربانية : ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ۚ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ﴾ [الأنبياء : 18].










مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة