لن أكتب هنا عن الست، لكنى سأكتب عن هذا الرجل الذى كان وراءها يعزف بجوار أخوته لتصدح موسيقاه متألفة مع أجمل صوت أنزله الله إلى أرضه، وهى المولودة على رأس المائة العشرين بعد ميلاد المسيح لتجدد شباب العالم بالبهجة الاستثنائية كاستثناء قولها «حللللوة..حلوة الأيام.. حلوة بتمر أوام».
لا.. لن أكتب هنا عن الست ولن أغرق فى التساؤل: كيف كان العالم يتذوق الأشياء «الحلوة» قبل أن تقولها الست بهذا الشغف الشهى؟ وليعيننى الله على تلك المهمة الصعبة، لأكتب عن هذا الرجل الذى أراه خلفها يقبل نايه قبلة دائمة، أو يحتضن كمانه بحنان وقوة، أو يتخذ من «القانون» إمامًا، أو يعانق النور بالكونترباص، أو يستولى على دور القلب فى الجسد فيضبط النغمات بالإيقاع، سأحدثك هنا عن هذا الصوفى الذى فنى فى أم كلثوم فتوحد بها حتى صارت عينه التى يرى بها وأذنه التى يسمع بها وعقله الذى يفكر به، وروحه التى تعانق السماء كلما وقف وراءها.
أتخيله منتظرًا حفلها الشهرى، يغرق فى البروفات طوال الشهر ليتقابل مع المعجزة فى ساعة أو ساعتين، كذكر النحل الذى يلهث وراء الملكة حتى يجهد تمامًا فيلقحها ويغيب عن الوعى، ويعيش فى الوجدان، أتخيله وهو المخمور بصوت الست حد الثمالة، الموعود بأن يكون أقرب الناس إلى أنفاسها، مفضلًا أن يعزف معها برغم قلة الأموال التى كانت تدفعها على ما دونها، هذا الرجل الذى كان يستعد كل شهر إلى مباراة متجددة يرقص فيها على الأحبال الصوتية لسيدة الغناء العربى كأمهر لاعبى السيرك، ذلك الرجل المجذوب الذى كتب عليه القدر أن يصاحب أكثر الأفراس العربية جموحًا، ذلك الرجل الذى ركب عقله فى أصابعه حتى أصبحت تلك الأصابع كائنًا مستقلًا بذاته، كائنًا يتنبأ بالغيب فيعرف متى ستنتقل الست من مقام إلى مقام، ومتى ستعيد ما قالته، ومتى ستنتقل نقلة جديدة، جعله الحب عرافًا، يعرف متى سترتشف الست من النهاوند رشفة ثم تعود إلى العجم مرة أخرى، ومتى ستقبل البياتى قبلة خاطفة لدخل فى الحجاز، ومتى ستحتضن الصبا قبل أن تغرق فى الهزام، هذا الرجل المعجزة الذى عانق النغم ومات، فعشنا نحن على أنغامه، نربى أبناءنا، ونحب وطننا، ونغازل محبوبتنا، ونناجى ربنا، هذا الرجل الذى عزف وراء الست، فأصبح سيدًا هو الآخر، لكنه «سيد خفى»، لا نتذكر اسمه أو ملامحه بعد أن تحولت تلك الملامح إلى درجات فى سلم موسيقى الروح.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة