"طول حياتى أفتخر أنى خريجة كلية الإعلام جامعة القاهرة قسم الصحافة، لكن أيامى فيها مكنتش أحلى الأيام زى ما كتير من الزملاء كاتبين، كل أما أعصر شنطة ذكرياتى بييجى فى دماغى كمية العنصرية اللى اتمارست ضدى بس لمجرد إنى بنت سمرا". بهذه الكلمات عبرت صديقتى النوبية "مى" عن ذكرياتها الخاصة أيام الدراسة بالكلية على صفحة لخريجى الكلية، تدفقت عبرها ذكريات الطلبة أو من كانوا يوما طلبة بالكلية، ذكريات تحملها سنوات طويلة من التخرج والعمل سواء فى مجال الإعلام أو غيره.
قبل أن أعرف صديقتى "مى" كنت أحمل للنوبة احتراما كبيرا ومحبة لأهلها وامتنانا عميقا لأنها منحتنا نعمة "محمد منير" وكفى به نعمة، قبلها كانت النوبة اختصارا فى شخصه وصوته وملامحه وجنونه واختلافه، ثم تعرفت عليها أثناء الدراسة، واشتركنا معا فى مجلة مشروع التخرج، وأصبحت واحدة من اثنتين ما زال بيننا حتى الآن تواصل ولقاءات على أرض الواقع بعيدا عن وهم الصداقات عبر فيس بوك.
لم أكن أدرى أن "مى" تعلم بمجرد أن قرأت كلماتها تذكرت ما كان يردده البعض سخرية منها فى عدم وجودها، اندهشت فى البداية مما يقال عنها، ولم أكن أعتبره إلا فصلا من فصول سخرية الجميع من الجميع بالكلية، لم أعتقد يوما أن تلك السخافات تصل إليها أو أنها تشعر بها، أقول لنفسى الآن بل كان يجب أن أدرك أنها بالتأكيد قد شعرت بها ما دمت أنا علمت بها، فدائما كنت آخر من يعلم أى شىء بالكلية، كنت محدودة العلاقات غير اجتماعية وكنت أعتقد أنها مثلى، لأنى لم أرَ لها أصدقاء كثيرين قبل اشتراكها فى مجموعة العمل معنا، كانت تكتفى بصديقة واحدة مقربة مسيحية كنت أرى صداقتهما عادية، حتى قرأت كلماتها، وأعتقد الآن أن اكتفاء كل منهما بالأخرى قد يكون نتيجة شعورهما بالقلق لأنهما نموذج للأقلية، فكل منهما تدرك أنها مختلفة، وأن كثيرا من المحيطين بها لا يحترمون ذلك الاختلاف، فاطمئنا لوجودهما معا.
ولكن إن كانت السخرية قد طالت "مى" وجرحتها فإنها طالت الجميع أيضا، ولأن الكلية قبلة للطلبة من كل المحافظات، فكان سجالا ساخرا حاميا، فدأب الفلاحون على قذف الصعايدة بالسذاجة، والصعايدة يردون بوصم أهل الوجه البحرى باللؤم، ويقذف الجميع الدمايطة والمنايفة بالبخل، ويتعالى القاهريون على الوافدين بالسخرية من اختلاف اللهجات وطريقة النطق الممطوطة للحروف لأبناء بعض المحافظات، وفيما بينهم يتباهى سكان الزمالك على أهل الجمالية، دوامات من العنصرية تغذيها سيول من النكات والقفشات الساخرة.
اعتذار واجب إلى صديقتى "مى" لأنها لم تجد فى ذاكرتها إلا إساءات البعض لها وعنصريتهم ضدها، بينما أول ما يخطر بذاكرتى عنها ابتسامة خجولة طفولية، وخصلة شعر تنسدل على جانب وجهها الأسمر النوبى، زينت بها صورة تذكارية ضمت مجموعة الأصدقاء المشتركين فى مشروع التخرج من قسم الصحافة كلية الإعلام قبل تسعة سنوات تقريبا.
كنت أعتبر سخرية أيام الدراسة سذاجة طلبة لم يتخطوا العشرين إلا قليلا، على يقين أنها لن تستمر بالتأكيد، ولكن للأسف استمرت، وتضخمت وتشابكت مع أجيال سابقة، فأسمع من الجميع الأن من يلوم على النوبيين تمسكهم بحقوقهم التى كفلها لهم الدستور، فأصبح إصرارهم على حق العودة إلى أراضيهم التى هُجروا منها قبل بناء السد العالى جريمة وتشدد وعنصرية منهم، بل ويعتبرها البعض مقدمة لمخطط انفصال فتشوا فى ضمائر النوبيين عنه، وادعوا أنهم وجدوه، وإذا كان هناك اعتقاد أن ثمة انفصال يُخطط له، فلماذا حفظ الدستور لهم إذاً حق العودة عبر المادة 236 التى نصت على: "تكفل الدولة وضع وتنفيذ خطة للتنمية الاقتصادية، والعمرانية الشاملة للمناطق الحدودية والمحرومة، ومنها الصعيد وسيناء ومطروح ومناطق النوبة، وذلك بمشاركة أهلها فى مشروعات التنمية وفى أولوية الاستفادة منها، مع مراعاة الأنماط الثقافية والبيئية للمجتمع المحلى، خلال عشر سنوات من تاريخ العمل بهذا الدستور، وذلك على النحو الذى ينظمه القانون، وتعمل الدولة على وضع وتنفيذ مشروعات تعيد سكان النوبة إلى مناطقهم الأصلية وتنميتها خلال عشر سنوات، وذلك على النحو الذى ينظمه القانون". هل يحتمل هذا النص غموضا أو سوء فهم أو تطبيق.
حقيقة أندهش من ترحاب البعض الشديد للتفاخر بالانتساب إلى قبائل عربية -غير مصرية بالأساس- من الجزيرة العربية، فى مقابل امتعاض وانزعاج الكثيرين من افتخار النوبى بذاته، وانتمائه المصرى الخالص، وإتهام البعض لهم بالتعالى والغرور.
فى كتاب "أيام نوبية" لباحثة علم الأعراق النمساوية "آنا هوهينفارت" الصادر عن الهيئة العامة للكتاب، يمكنك عزيزى القارئ أن تتعرف بالصور على بعض الجوانب من حياة النوبيين على ضفاف النيل قبل عملية التهجير إلى كوم أمبو من أجل بناء السد العالى التى بدأت فى أكتوبر 1963 حتى خريف 1964.
ففى عام 1960 أطلقت اليونسكو دعوة لإنقاذ آثار النوبة، ودراسة حياة المجتمع النوبى الذى يعيش على ضفاف النيل فتوجهت "هوهينفارت" إلى النوبة، وقدمت بانوراما فوتوغرافية بالألوان لتفاصيل الحياة النوبية قبل التهجير، وارتباط أهل النوبة بالحياة على ضفة النيل، وكيف تأقلم النوبى مع ثورات فيضانه، فنقل منزله على التلال المطلة على النهر حتى لا تغمره المياه فى موسم الفيضان، وجنى محاصيل البلح من النخيل المغمور فى مياه الفيضان باستخدام المراكب، اعتاد النوبيون استغلال البيئة المحيطة وفقا لتقلباتها، فاستغلوا السهول الفيضية التى يكونها الفيضان فى الزراعة، واعتادوا جنى محاصيلها قبل أن تغمرها مياه الفيضان مجددا خصوبتها لموسم زراعة جديد.
تفاصيل حياة يومية على ضفاف النهر قد تجعل البعض يفهم لماذا يتمسك النوبيون أجيال وراء أجيال بحلم العودة إلى بعض من تلك الحياة على ضفاف النهر، الذى طالما ارتبط وجودهم به.. ولا ضاع حق وراؤه مُطالب.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة