د. مجدى عاشور

تجديد التفكير الديني

الجمعة، 04 نوفمبر 2016 10:13 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

(10) أهمية تحديد المفاهيم

 
 
تُعَدُّ قضية «المفاهيم» من القضايا المحوريَّة، والموضوعات المهمة الضروريَّة، التي تدخل في ضبط المجالات المختلفة لكلِّ أُمَّةٍ ومجتمع ودولة، بل ولكل فرد، سواء على المستوى الديني أو الفكري أو الثقافي أو غير ذلك من مجالات الحياة.
 
إذ ما من مجال إلا ويقوم على فلسفةٍ باعثة وحاكمة على وسائل ذلك المجال لتحقيق غاياته التي تنفع الإنسان والكون والحياة.
 
ولابد في بدايةِ كلِّ مجالٍ مِن ضَبْط منهجه وأصوله، وأساسُ هذا المنهج وتلك الأصول هو ضبطُ و " تحديد المفاهيم " التي تساعد على إيجاد الإجراءات والوسائل المتعلقة بذلك المجال، وصولًا إلى الهدف المنشود منها، وإلا اضطرب المنهج واختلت القواعد وعمت الفوضى هذا المجال وأدى إلى نقيض مقصوده، وصار ضَرُّه أقربَ من نفعه، وشرُّه غالبًا على خيره.
 
ولهذا المعنى اكتسبت قضية «المفاهيم» أهميتها القصوى في منظومة العمل العلمي بكل جوانبه، وأصبح من أبجديات تحقيق نجاح أي عمل فردي أو جماعي في مجالات الحياة أن نهتم بـ «تحديد المفاهيم» المتعلقة بذلك العمل في مجاله المرتبط به، حتى تتضح للقائم بها أولًا وللمتلقي لها ثانيًا، فتتمايز العلوم ويظهر الفرق بينها؛ لأن تحديد المفهوم أساسُ بيانِ الموضوع، والموضوع هو ما يميز أي علم من العلوم.
 
وإذا جئنا إلى الإسلام وجدنا اهتمامه الكبير بقضية «تحديد المفاهيم»، بل جعله أساسًا ينبني عليه الاعتقاد في بعض الأحوال.
 
ففي القرآن الكريم جاء صراحةً ضرورةُ التمييز بين المفاهيم المتقاربة في الحقل الواحد، فقال تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾[الحجرات: 14، 15].
 
فقد فرَّق النصُّ القرآني هنا بين الإسلام الذي هو الانقياد لله تعالى من خلال عمل الجوارح، وبين الإيمان الذي هو الاعتقاد الجازم بهذا العمل من خلال القلب أولًا ثم ترجمتِه إلى عملٍ بالجوارح، أي الإسلام هو العمل بالجوارح دون النظر إلى القلب، والإيمان تطابق عمل الجوارح مع اعتقاد ما في القلب، وشتان ما بين المفهومين بهذا التحديد.
 
ولذلك فقد يكون المرءُ مسلمًا أمام الناس- وهذا هو معيار التعامل فيما بينهم- ولكن قلبه جاحد أو مُنكِر، وهو الذي يَعُده الشرع نفاقًا، فإذا اعتقد بقلبه دون العمل بجوارحه فهو مؤمن ولكنه مُقصِّر، وإن تطابق عمل الجوارح مع إيمان القلب فهو المؤمن الصادق كما خُتِمت الآية السابقة . وبتحديد مفهومِ كُلٍّ منها يترتب كثيرٌ من الأحكام في الدنيا وفي الآخرة.
 
وقد بينت السُّنة النبويَّة الشريفة معاني تلك المفاهيم بشيء من التفصيل زاد عما ورد بالآيتين الكريمتين، للدلالة على أهمية «تحديد المفاهيم» ليس على وجه الإجمال فَحَسْب، بل بمزيد بيان وإيضاح.
 
فقد قال رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المشهور بينه وبين سيدنا جبريل عليه السلام، عندما سأله عن المفاهيم الكبرى في دين الإسلام، وهي: «الإسلام، والإيمان، والإحسان»، والذي رواه عنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال:
 
بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرَى عليه أَثَرُ السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام.
 
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا». قال: صدقت.
 
قال: فعَجِبْنا له؛ يسأله ويُصدِّقه!
 
قال: فأخبرني عن الإيمان. قال: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ».
 
قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان. قال: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»[صحيح مسلم].
 
والشاهد هنا أن الشرع أراد أن يبين تلك المصطلحات على هذا الوجه المحدد والدقيق، نظرًا لما يترتَّب على معانيها من تكاليفَ وأحكامٍ، وحقوقٍ وواجباتٍ، بل هي سبيلُ تَـحَقُّقِ الشرعِ بأكمله، ومنارُ الوصول إلى أعلى الـمَقامات، ومِعراجُ الروح إلى رب الأرض والسموات؛ إذ نراها تجمع بين علاقة المرء بربه وعلاقتِه ببني جنسه، بل بالكون كلِّه، من خلال مقام «الإحسان».
 
وبهذا النظرِ، وذلك التحقيق، سار الأولون من العلماء في صدر الإسلام، حتى يومِنا هذا على هذا المنهج، وأدركوا أهميةَ «تحديد المفاهيم»، سواءٌ على مستوى العلوم الشرعيَّة، أو على مستوى ما يندرج تحت كلِّ علمٍ من أبوابٍ وقضايا ومسائل.
 
وكان مِن ثمرة وَعْيِهم هذا أنهم فرَّقوا بين ما هو قطعيٌّ وظنيٌّ، أو ما هو ثابتٌ ومتغير، أو ما لا يجوز الاجتهادُ فيه وما يجوز، حتى نبني على ما سبق، فتتراكم المعارف وتتولد العلوم، وتكون تلك العلومُ رحمةً للناس، ونفعًا لعمارة الكون وبناء الحضارات، وسبيلًا لتحقيق الذات وتحصيل السعادة في الدنيا والآخرة.
 
وبالمقابل عندما تسَوَّر على العلوم الشرعية غير أهلها، وتصدَّر باسم الدين ذوو الأهواء والفكر المتطرف، انقلبت المعايير ، واختل الميزان، وأطلَّت الفوضى برأسها على الساحة الدينية والثقافية والاجتماعية،و كان السبيل إلى هذا التطرف وتلك الفوضى الأخلاقية التي أشاعها أصحاب هذا الفكر المنحرف، كان سبيلهم في ذلك ابتداءً من خلال الغَبَش والاضطراب والتدليس في المفاهيم؛ بل صارت في بعض الأحيان إلى قلب المفاهيم وتغيير المعيار الأساس لبداية كل علم ومجال من : " تحديد المفاهيم " إلى " تخريب المفاهيم "، خاصة ما تعلَّق منها بأشرف شيء وهو الدين .
 
وصارت تلك المفاهيم أدوات للفُرْقة والتنازع؛ بل ولإراقة الدماء بين الناس وتخريب الأوطان وجعلها نهبة لكل ضعيف نفس في الداخل وعدو متسلط في الخارج، وأصبحت تلك المفاهيم سببًا للشقاق بدل أن تكون سبيلًا للوفاق، مثل مفاهيم : " الجهاد " و " الدولة " و " الخلافة " و " التعامل مع الآخر " وتطبيق الشريعة " وغيرها من  المفاهيم .    وكان العامل الأساسي في ذلك أنه اعنراها عَوَرٌ كبير من : الاختلال تارة، والاحتلال أخرى، والاجتزاء أو الاختزال ثالثة .
 
وهذا ما نتناوله بشيء من التفصيل في مقالنا القادم .









مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة