"مكان مهيأ لقلق قادم" قصة جديدة لـ"إيهاب مصطفى"

السبت، 05 نوفمبر 2016 05:03 م
"مكان مهيأ لقلق قادم" قصة جديدة لـ"إيهاب مصطفى" إيهاب مصطفى

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

سأقول لك كيف بدأ الأمر يا خال، كان طريق الرجوع من الخور قاسيا، كأنه يطول كلما اقتربت، الدنيا ليل قاسٍ على البدن، ظلمة متكاثفة تطوقنى بقبضة ظلامية موجعة، تنخر فى روحى وترتب مكانا جيدا تمهيدا لقلق قادم، فرحت جدا وقت أن لاح النور، خفت أن يكون سرابا، أو أن بؤبؤ عينى تمكن من خداعى وهيأ لى بهجة غير موجودة لإدراكه احتياجى العظيم، لكنها لم تكن سرابا، دخلت إلى نجعنا أجر قدمى المتعبة، كانت البنت تجلس على المصطبة تحت النور الشحيح، رأتنى قادما ودخلت إلى بيتهم بسرعة، رجعت تحمل كوبا من الماء، شربت خفيفا وشكرتها، شدتنى بقسوة مثل طفل عاق، أجلستنى ورأيت وجهها، البعوض يحوم حول اللمبة المعلقة على  العامود الحديدي،  يرسل ظلالا متطايرة إلى وجهها، البنت أرسلت إلى عينى بسمة ما رأيت مثلها يا خال، لها شعر لا تقدر على فصله من الليل الأم، ربما تشك أن السماء كلها رأسها، لها حاجبين يبدآن بعنفوان وينحفان ثم يختفيان عند آخر جرة لمرود الكحل فى عينيها، خديها متوردان مثل رغيفين شمسيين يفصل تلاقيهما أنف ينزل على مهل وبحيادية تامة، شفتيها دم يحبسه جلد رقيق، كنت أعرف زينب، وكثيرا ما تكلمت معها، لكن نظرتها كانت غريبة جدا، كانت تخترقنى وتقلب دواخلى رغما عني، أوراقى تتكشف تماما قدامها، يا خال صدقني، كأنها كانت جديدة تماما، مخلوقة للتو أراها لأول مرة، وبعد أن ارتحت من وجعى قلت لها نكتة، ضحكت بقوة بصوت يحمل فى طياته فرحة، كنت أقول لها النكتة، تضحك فأفكر فى نكتة أخرى بسرعة كى لا يقف خيط الضحك، لكن ذاكرتى لعوب، لا تستشيرنى فيما أحب ولا أحب، تفرض على أشياءً لا أحتاجها ولن تضحك لها زينب، قل لى مثلا، لماذا أتذكر يوم كاد حمدى أن يغرق، ولماذا أتذكر يوم أن اندلق عجين الأم على الأرض، هل هذه أشياء تضحك لها زينب!!، وفرغت ضحكات زينب، وتثاءبت، لماذا حكم علينا بالنوم كل يوم يا خال؟، قلت لنفسى أكان لزاما عليها التثاؤب، ووقفت أتعرَّق حرجا، وقفت ونظرت إلى ودخلت إلى بيتها بصمت هادئ ورزين، مشيت أجر قدمي، وتذكرت العديد من النكات التى كان يمكن أن تضحك لها زينب، وحزنت جدا، كان يمكن لتلك الجلسة أن تطول، وكان يمكن لضحكات زينب أن تستمر حتى تستيقظ العصافير وتغنى للعالم، وفى الطريق راحت زينب تملؤني، استباحتنى تماما مثل أرض لا نزاع عليها، دخلت إلى بيتي، صدقنى يا خال، كنت جائعا مثل كل مرة أرجع جائعا ومنهكا، ومثل كل مرة سآكل بقوة كأنما سيفرغ الطعام من العالم، وضعت الأطباق ومددت يدا مرتعشة، ورحت ألوك قطعة العيش وأقلبها ما بين أضراسي، وعندما حاولت ابتلاعها لم أقدر، ما الذى حدث لى وقتها؟، لا أعرف ولماذا أكاد أتقيأ كلما حاولت ابتلاع لقمة؟، هل جربت أن تقلب الطعام بالماء فى فمك كى تستطيع البلع؟ هذا ما حصل يا خال، وقمت والرغيف الشمسى أمد الله فى عمره ليوم جديد، وفى حجرتى راحت ضحكاتها تخترقني، أنت لن تصدق حين أقول لك أن صورها راحت تتبعثر وتتسلق الحوائط، وتتقافز على سرير نومي، وراقبت البنات وهن يستبحن فراغ غرفتى على مهل، يخرجن ألسنتهن ويضحكن، كلهن زينب ياخال، وراحت تلك الغصة تتصاعد وتطمئن فى حلقي، ولأول مرة أقدر على عد ضربات قلبي، لا.. لم يكن يدق، كان يرجنى رجا، ولا أعرف السبب، هل أحببت زينب؟، لا أعرف، لكنى أعرف تماما أنك حين تحب فإن الأمر يدخلك بهدوء وروية بغير علمك، يبعثر رؤاك ويمنحك عينا زائغة وشفاه مرتعشة، ورعدة تسرى مثل خدر لذيذ، لا تشعر إلا وأنك محتل، والأنكى أنك تهيئ لمحتلك الأماكن كضيف مرحب به، البنت لم تتركني، حين حاولت النوم وجدتها دخلت ما بين وسادتى ورأسي، قمت مرات لأجدها لا زالت تمرح فى فضاء غرفتي، أخرج فتخرج ورائى وتحاوطنى من جميع الجهات مثل فقاعة احتوتني، وبكيت يا خال، أنا لم أكن مهيئا لحمل هذا الأمر، وجلست على عتبة دارى أراقب الليل المعاند، وجاء الصبح بطيئا كولادة طفل لأم عجوز، النهار راح يجلو كل شيء من حولي، وخرجت الأبقار تجر أصحابها أو يجرها أصحابها لا أعرف، وكانت هناك بقرتان يجران محراثين متجاورين فيصنعان خطين مستقيمين إلا قليلا، بدا أنهما يشبهان حمالتين لا يشدان بنطالا، وانتظرت يا خال، وصبت الشمس حرارتها لتجلد ظهر العالم بقسوة، دَخَلت بيتى وفكرت كثيرا، نويت ألا أذهب لزينب، وعكست اتجاهى وما طاوعتنى قدماي، حاولت السير وما قدرت، ووجدتنى منساقا وراء قدمي، تمشى بحسب رؤيتها لا رؤيتي، كأنما هى من تملك زمام أمري، قدمى كانت ضد إرادتي، ووجدتنى مرغما على السير حتى باب زينب، ووجدت الكثير من زينب يتبعنى إلى الأصل، يتقافزون من حولى فرحين برؤيتهم الجسد الأم، كيف أخبط على بابهم وماذا سأقول لهم، فكرت كثيرا فى كلام يليق بالوقوف مبكرا على بابهم، حتى الحروف كانت تتبدل، اشد الحرف إلى الحرف فيشد أخوه ويبدلان مكانيهما، يدى أيضا كأنما لها عقل خاص بها،  لم تنتظر رؤيتى أو تستشيرني، راحت تنتهك المسافات إلى الباب، وقبل أن تخبط ترجع بقلق، مرات كثيرة راحت ورجعت، ومرات كثيرة والقلق يلفنى كأم رؤوم، وفى الأخير لامست بابهم بصوت لم أسمعه أنا، لكن يدى تشجعت وطرقت بصوت أعلى، ولم أنتظر كثير وسمعت صوت الشبشب يجر قدم صاحبه إلى الباب، سيكون أخيها أو ابيها، ماذا سأقول له، يمكننى أن أقول له أننى نسيت الساعة على المصطبة، لكنهم يعلمون أن علاقتى بالوقت معدومة وأن المآذن تتكفل بمعرفتنا للنهار ومدى قوة الشمس فيه، وارتبكت حين سمعت صوت الترباس الداخلى ينشد بحركة سريعة، ودخلنى صوت دوران قائم الباب، وجاءنى وجهها، هى زينب، وكأنها لم تندهش، هل قالت صباح الخير، شفتاها ثابتتان لكنى أقسم أنى سمعت صباح الخير، ولم أرد، لكنى أقسم أنها سمعت الرد، إيماءتها أوحت لى بذلك، كانت المساحة المبسوطة بيننا مليئة بأنفاس حارة وقلق، لم تحتوِ على حرف واحد لكنها كانت مليئة بالكلام، عيناها حمراوتان مثل جمرة فى طريقها للخبو، فَتَحَت الباب أكثر فوجدتنى أخرج من بابهم، لم أكن واحدا، كثيرا من أشباهى كانوا يخرجون، وهى تنظر إليهم بقلق، ونظرت إلى الأعلى ووجدت كل شبيه من أشباهى يمسك بشبيه من أشباهها ويتطايرون فى اتجاهات مختلفة.

القصة من مجموعة قصصية تصدر قريبا "اسمها زينب"










مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة