هدأت الحمّى، وعاد ثوار الثقافة العربية أدراجهم، وخبا الدخان فى ثكنات غادة السمان ومعاقلها التى قصفها المثقفون الليبراليون المحافظون "الثوار"، والآن يمكننا أن نجلس على طاولة العقل، إن كان ثمة عقل فى كل ما تشهده الثقافة العربية.
بداية، لا أحب "الجادجمنتاليين" ولست منهم، وفى تصورى أن فساد الحكم والمنطق لدى أى شخص، يبدأ من رفع لافتة القيم، واتخاذ المواقف على أرضية أخلاقية، ومن هذه النقطة الضاربة لجذور التفكير السليم فى اعتقادى، رأيت سيلا عرما من التناقض والتسطيح وادعاء الفضيلة، فى قضية نشر الكاتبة السورية غادة السمان، رسائل الشاعر اللبنانى أنسى الحاج لها، المؤرخة بالعام 1963، وغنّى كل ناقد أو حاقد أو خائف على ليلاه، أو بالأصح رسائله المخبوءة فى بطن الغيب، ولم يقترب أحد أو يحاول، من الثقافة والإبداع والتقدمية وفكرة الشخصية العامة فى أى وجه من الوجوه الموجبة للنقاش الموضوعى، استجاب الجميع لثقافة "نجد" المُعمّمة على الخريطة العربية، منحازين إلى ممارسة العادة السرية، بدلا عن انتزاع قُبلة فى وضح النهار.
شخصيا لم أستسغ السير فى مواكب اللعنات والمحاكمة والفرز الأخلاقى، ولا قطعان الرفض والاستهجان وقصف الجبهات، ولمّا أقرأ الرسائل بعد، لهذا آثرت قراءة رسائل أنسى الحاج لغادة السمان قبل التفكير فى الاشتباك مع الموضوع، ولم أجد فى الرسائل التسعة ما يمثل انتهاكا لعصمة الشاعر اللبنانى وخصوصيته، ولا ما يمكننى حسابه فى إطار التلصص واستباحة المساحات الشخصية، لم آخذ موقفا ولو هيّنا من غادة أو من أنسى، ولكننى أخذت موقفا صريحا ولا تفكير فيه من طوابير القضاة الأخلاقيين، ويعلم الله عاداتهم السرية التى لا أعلمها، ولى عليهم فساد منطقهم واختلال مفاهيمهم وتداخلها.
هل أخطأت غادة؟ هل خان أنسى الحاج؟
البداية البسيطة والسطحية، على مذهب جموع الثائرين العرب، أنه إن كان ثمة خطأ فى موضوع رسائل أنسى الحاج لغادة السمان - وشخصيا لا أرى أى خطأ - فهو فى وجود الرسائل من الأساس لا فى نشرها، فى هذا الشاب العاقل ذى الستة والعشرين عاما، المتزوج ووالد الطفلين، الذى يكتب رسائل عاطفية حارة وملتاثة لفتاة فى منتهى عقدها الثانى، مقتحما خصوصية الفتاة ومبتزا لمشاعرها، إن كانت لم ترد على هذه الرسائل مثلما قالت، وإن ردت فالجريمة تخص أنسى وحده أيضا، ففى كل الأحوال هو رجل خائن، وفق فلسفة الرفاق الجادجمنتاليين الأخلاقيين، انتهك حقوق زوجة وطفلين، وطعن كرامة أنثى قارة فى بيتها طمعا فى أنثى هجرت وطنها بحثا عن العلم والأدب، ولا يختلف هذا المنطق لدى عمّن ينتقدون الأنثى ويحاسبونها على ما تلاقيه من تحرش، ومن يلومون المحاربة التى لا تصمت على انتهاك وتعدٍّ، ومن يرون النساء مشروعات جنسية مفتوحة وأهدافا محتملة للمتعة المجانية، أنا ضد هذه التصورات كلها، ولكن هذا منطق الثائرين الذى لم أستطع رؤية ثورتهم خارجه.
أزمة الرسائل.. خلل المفاهيم لدى المثقفين العرب
البداية العاقلة فى رأيى تنطلق من التحرير الإجرائى للمفاهيم، لفكرة الكتابة ومجالاتها، لمعنى الشخصية العامة وحدودها، ولمستوى ولاية الشخص على دوائره الشخصية المتقاطعة مع الآخرين، أو بتصور أكثر بساطة، كيف يتأتى لمثقف امتدح رسائل جبران ومى زيادة، ورسائل المنفلوطى للشخصية نفسها، ورأى علاقة سارتر وسيمون دو بفوار فتحا إيجابيا، وامتدح كتابات هنرى ميلر وعلاقاته، وقس على هذه النماذج عشرات أخرى من الرطانات التى لاكها المثقفون العرب، يقف أمام رسائل أنسى لغادة موقفا أخلاقيا، يليق بشيخ جامع لا بمثقف ينتصر للكتابة والإبداع وقيادة العقل إلى خارج حدود صكها الأسلاف ويأباها الواقع الحى، وأيضا كيف نتعامل مع الشخصية العامة وفق مفاهيم سوسيولوجية محافظة، تمنحهم عسل الحضور والشهرة والتحقق وتذبّ عنهم لدغات النحل، فالحقيقة أن أنسى الحاج شخصية عامة، يجوز فى حقه ما لا يجوز فى حق آخرين من عوام الناس وآحادهم، وفى ظرف موضوعى ناضج كان يُفترض أن يجد زائر بيروت مساحة تحمل اسم الرجل، تضم ملابسه قبل كتاباته، وتطلعنى على غرفة نومه لا على رسائله فقط، بينما لا يحق لى دخول غرفة نوم كائن عادى فى هذا العالم، والنقطة الثالثة والأهم فى تصورى، أن غادة السمان لم تخترق خصوصية أنسى الحاج، السيدة الفاضلة التى رمى الرعاع عرضها بسفالة واستخفاف، تقاطعت دائرتها الشخصية مع دائرة الشاعر اللبنانى العاشق، فحق لها أن تتصرف فى دائرتها كما شاءت، وحينما دبج الحاج رسائله التسعة، أخرجها من كهنوت الشخصى إلى مشاعية العام بدرجة ما من درجات العموم، باعتبار النسخ الأول وحدة ضئيلة وأولية من وحدات النشر العام، ولا فارق فى تصورى بين القلم وماكينة الطباعة، وحتى أسرار الدول وملفاتها الكبرى تتاح للنشر بعد مدة محددة من السرية، والسيدة الفاضلة سترت الرسائل أكثر من نصف القرن، رغم أنها شأن شخصى يخصها قدر ما يخص أنسى الحاج، وربما أكثر وأكثر، إذ بخروج الرسائل من عصمة صاحبها لم تعد مملوكة له بأى صورة من الصور، النموذج الأقرب إن شئت مقاربة نظرية وثقافية - مع حفظ مساحة التباين فى المثال ومجال عمل النظرية الأساسية - فكرة موت المؤلف لدى "رولان بارت" وانقطاع الذات المنشئة للخطاب عن خطابها، لم يعد أنسى حاكما للنص ولا طرفا فيه، أصبح نصا حيًّا يتنفس فى هذا العالم بمفرده، فقط للمصادفة شهد ولادته وبداية تنفسه شخصان، أنسى وغادة، ولا حق لهما فى مصادرته أو تفسيره، ولا واجب علينا فى اتخاذهما مرجعية لقراءته، ولا تثريب على ناشره وقارئه.
الحب العربى.. حرية "غادة" فى وجوه مثقفى العادة السرية
الخلل الأكثر عمقا وفداحة من فكرة تداخل المفاهيم السابقة، وفق ما أراه، هو استمرار عبادة المثقفين العرب لقيمهم القديمة الرثة، وموازنة أمور الراهن وفق تصورات مرجعية وإحالية لا تبتعد كثيرا عما أسس له الفقهاء ورجال الكهنوت الميتافيزيقى، ما زال الحب عادة سرية لدى الذهنية العربية، على كثرة ما تقترفها، تناضل لإثبات القطيعة الكاملة معها، اعتقادا عميقا منها بأنها مساحة ملوثة لا تليق بسيكولوجيات الأطهار المعصومين من آباء الكلمة، هكذا وفق مستوى مركزى من المعرفة المؤدلجة والمؤسسة على ركائز قبلية وعقدية، ومن هنا تكتسب العلانية التى تقف شامخة كاحتمال قائم لمآلات الرسائل والعلاقات المبتورة والعادات السرية لمثقفى الراهن المُعاش، تهديدا خطيرا وعضويا للصورة النمطية التى تأسست عليها الثقافة العربية وتشكلت وفقها صورة المثقف، وهكذا كانت الجموع الثائرة تحاول الثأر لأنفسها بمواقف استباقية، تحاول صيانة سرية رسائلها، الحالية أو المستقبلية، أكثر من الثورة لاسم أنسى الحاج والأسى لسريته المهدرة.
رسائل غادة تنتصر لـ"أنسى الحاج" بالحب
ما فعلته غادة السمان حق شخصى لها، لا يجوز لأحد انتقاده أو قياسه بمازورة أخلاقية، وبعيدا عن فكرة الحق، فالسيدة لم تتلصص ولم تتحرش ولم تفتح دولاب أنسى الحاج ولا غيره، السيدة لم تقتحم الناس فى صناديق الرسائل الخاصة ولم تخطف رجلا من زوجته، والدليل على هذا الرسائل نفسها، لم تدخل علاقتين فى وقت واحد، ولم تتمرن على النوم الهادئ فى أكثر من سرير، وحدها العقلية المحافظة الأخلاقية تفعل هذا وتنتقده ويصدمها نشره أو الحديث عنه، العقلية السوية - مثل غادة السمان ومن على شاكلتها رجالا ونساء - يعرفون حقيقة أننا بشر، بشر وحسب، لا يحق لنا أن نعيشها ملائكة ولا أن نزايد على الناس بدنسنا المخفى عن عيونهم، لهذا ستجدها تكتب هكذا، وتنشر هكذا، وتعيش هكذا، وستجدها وهى سيدة فى الرابعة والسبعين من عمرها، غضة القلب والروح، تعرف قيمة أن تكون حقيقيا وعلى طبيعتك طوال الوقت، وتنتصر لقلوب العشرينيين أكثر من انتصار أصحابها لها، وتصون حق أنسى الحاج فى أن يطلق رئتيه على وسعهما، كيفما شاءت له الحياة وهواؤها، لا أن يقبض على صدره بذراعيه ليحبس الهواء الذى لم يُخلق ليُحبَس، فقط يفعل "الجادجمنتاليون" هذا، فقط يفعله مثقفو العادة السرية.
سيدتى غادة السمان، محبة لروحك، وأسف على تطاول المتطاولين، ووردة بين دفتى رسائل أنسى لك، كونى بخير حتى يكون أنسى وغسان وجبران ومى والعقاد والمنفلوطى وكل المحبين بخير.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة