بعد سقوط الخلافة الإسلامية في تركيا بأعوام، وفي ظل النقاش الحاد حول وضع المسلمين وتطلع إنجلترا لجعل الملك فؤاد خليفاً للمسلمين، وبالتحديد في الأيام المبكرة في سنة ١٩٢٧، كان الشيخ علي عبدالرازق يضع اللمسات الأخيرة في كتاب جديد له- في الواقع هو بحث أكثر مما هو كتاب- هذا الكتاب الذي أصبح أسطورة في التاريخ السياسي الحديث لمصر حيث اختار له الشيخ المفكر عنوانا محددا هو "الإسلام وأصول الحكم ـ بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام".
ويشتمل هذا الكتاب على أهم الأفكار التي تبناها المفكر الكبير الشيخ علي سلامة، والتي تكشف رؤيته وشخصيته الفكرية المبدعة، وفيما يلي يعرض "اليوم السابع" عرضاً ملخصاً لتلك الأفكار التي حواها كتاب "الإسلام وأصول الحكم ـ بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام" بين دفتيه.
ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أجزاء، يغطي الجزء الأول منها موضوع الخلافة والإسلام، والجزء الثاني الحكومة والإسلام، والجزء الثالث الخلافة في التاريخ.
يبدأ عبد الرازق كتابه بفصلٍ عن الخلافة وطبيعتها، فيعرّفها لغةً: "الخلافة مصدر تخلّف فلانٌ فلاناُ إذا تأخّر عنه، وإذا جاء خلف آخر، وإذا قام مقامه، ويُقال خلف فلانٌ فلاناً إذا قام بالأمر عنه، إمّا معه وإمّا بعده.
ثمّ يقوم شيخنا المفكر الكبير، بتعريف الخلافة اصطلاحاٌ في لسان المسلمين وهي: "رياسة عامّة في أمور الدين والدنيا نيابة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم"، ثمّ يفصّل في مفهوم الخلافة، وهل هي خلافة الله أم خلافة رسوله فيقول: "وأمّا تسميته خليفة فلكونه يخلف النبيّ في أمّته فيقال خليفة بإطلاق، وخليفة رسول الله، واختُلف في تسميته خليفة الله، فأجازه بعضهم ومنع الجمهور منه، وقد نهى أبو بكرٍ عن ذلك لمّا دُعي به". ويشير إلى أنّ محلّ الخليفة بين المسلمين كمحلّ رسول الله، له الولاية الخاصّة والعامّة، وتجب طاعته "ظاهراً وباطناً".
يستعرض الشيخ علي عبد الرازق في هذا الباب مذهبين لدى المسلمين في استمداد الخليفة لسلطانه: الأوّل، وهو "فاشٍ بين المسلمين" يعتبر أنّ الخليفة يستمدّ سلطانه من الله، أما الثاني "نزع إليه بعض العلماء وتحدّثوا به" يعتبر أنّ الأمّة هي مصدر سلطان الخليفة، وهي التي تختاره.
- الفقهاء والسياسة:
عند استعراضه لمقام الخليفة في المسلمين، وصلاحياته، يتساءل المؤلّف عن مصدر هذه القوّة التي مُنِحت له، ويعتبر أنّ فقهاء المسلمين عموماً لم يجيبوا عن هذا التساؤل، شأنهم في ذلك كشأنهم في مختلف مباحث السياسة، إذ يستغرب الشيخ عبد الرازق عدم اهتمام فقهاء المسلمين بالسياسة بشكلٍ علم. فهم لك يتركوا باباً من أبواب العلوم لم يطرقوها، ورغم ذلك نجد أنّ اجتهاداتهم أو نظريّاتهم فيما يتعلّق بالحكم وإدارته خجولة جدّاً، هذا مع العلم أنّهم اطّلعوا على تراث الأقدمين في هذا علم السياسة، خصوصاً فلاسفة الإغريق الذين تأثّر بهم المسلمون أيّما تأثير، وعن ذلك يقول المؤلّف:
ويحلل عبد الرزاق السبب في استبداد الملك والسلطة الذي تم في عهود الخلافة التي كانت عادة محاطة بالرماح والسيوف والجيوش المدججة والبأس الشديد، ولذلك كان طبيعيًّا أن "يستحيل السلطان وحشًا سفاحًا وشيطانًا ماردًا إذا ظفرت يداه بمن يحاول الخروج عن طاعته وتقويض كرسيه، وإنه لطبيعي فيه أن يكون عدوًّا لدودًا لكل بحث علمي يتخيل أنه قد يمس قواعد ملكه أو يريح من تلقائه ريح الخطر ولو كان بعيدًا، ومن هنا نشأ الضغط الملوكي على حرية العلم ومعاهد التعليم، ولاشك أن أخطرها كان علم السياسة، ولذلك كان حتمًا على الخلفاء أن يسدوا طريقه ومنافذه أمام الناس.”
- لا خلافة في الإسلام:
يرى عبد الرازق أنّ القرآن والسيرة النبويّة والأحاديث ليس فيها ما يثبت الخلافة، ويعلّل ذلك بقوله: "وكل ما جرى من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام من ذكر الإمامة والخلافة والبيعة إلخ.. لا يدلّ على شيء أكثر ممّا دلّ عليه المسيح حينما ذكر بعض الأحكام الشرعيّة عن حكومة قيصر".
كما يفسّر مفكرنا "عبد الرازق" الأحاديث التي تدعو إلى طاعة الإمام بالآتي: "وإذا كان صحيحاً أنّ النبيّ عليه الصلاة والسلام قد أمرنا أنّ نطيع إماماً بايعناه، فقد أمرنا الله تعالى كذلك أنّ نفي بعهدنا لمشرك عاهدناه، وأن نستقيم له ما استقام لنا، فما كان ذلك دليلاً على أنّ الله تعالى رضي الشرك، ولا كان أمره تعالى بالوفاء للمشركين مستلزماً لإقرارهم على شركهم".
- "الخلافة تحفظ الدين".. حجة هشة:
لا يرى "عبد الرازق" أنّ الحجّة القائلة بضرورة الخلافة لحفظ الدين هي حجّة صحيحة، وهو يعبّر عن هذه الفكرة بقوله: "علمت ممّا نقلنا لك عن ابن خلدون "أنّه قد ذهب رسم الخلافة وأثرها بذهاب عصبيّة العرب، وفناء جيلهم، وتلاشي أحوالهم، وبقي الأمر ملكاً بحتاً… وليس للخليفة منه شيء" أفهل علمت أنّ شيئاً من ذلك قد صدع أركان الدين، وأضاع مصلحة المسلمين على وجه كان يمكن للخلافة أن تتلافاه لو وجدت".
وقول المفكر الراحل في كتاب: "إن يكن الفقهاء أرادوا بالإمامة والخلافة ذلك الذي يريده علماء السياسة بالحكومة كان صحيحاً ما يقولون، من انّ إقامة الشعائر الدينيّة، وصلاح الرعيّة، يتوقّفان على الخلافة، بمعنى الحكومة، في أيّ صورة كانت الحكومة، ومن أيّ نوع. مطلقة أو مقيّدة، فرديّة أو جمهوريّة، استبداديّة أو دستوريّة أو شوريّة، ديمقراطيّة أو اشتراكيّة أو بلشفيّة. لا ينتج لهم الدليل أبعد من ذلك. أمّا أن أرادوا بالخلافة ذلك النوع الخاص من الحكم من الحكم الذي يعرفون فدليلهم أقصر من دعواهم، وحجّتهم غير ناهضة".
- الخلافة للغلبة:
ويشدّد المفكر علي عبد الرازق، على فكرة أنّ الخلافة كانت دائماً تؤخذُ بالقوّة والغلبة، وهو يستشهد بالكثير من أحداث التاريخ الإسلامي في هذا المجال، فيقول: "لا نشكّ مطلقاً في أنّ الغلبة كانت دائماً عماد الخلافة، ولا يذكر التاريخ لنا خليفةً إلا اقترن في أذهاننا بتلك الرهبة المسلّحة التي تحوطه، والقوّة القاهرة التي تظلّه، والسيوف المسلتة التي تذود عنه".
ويؤكد رؤيته عن الخلافة قائلاً: "والخلافة ليست في شيءٍ من الخطط الدينيّة، كلا ولا القضاء ولا غيرهما من وظائف الحكم ومراكز الدولة، وإنّما تلك كلّها خطط سياسيّة صرفة، لا شأن للدين، فهو لم يعرفها ولم ينكرها، ولا أمر بها ولا نهى عنها، وإنّما تركها لنا، لنرجع فيها إلى أحكام العقل، وتجارب الأمم، وقواعد سياسيّة".
- القضاء:
ثمّ يتطرّق مؤلّف كتاب "الإسلام وأصول الحكم ـ بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام"، إلى قضيّة القضاء، فهو يرى أنّ السيرة النبويّة ليس فيها معالم واضحة لآليّات القضاء، ورغم محاولات البعض استخراج نظام متكامل للقضاء من سيرة الرسول إلا أنّ الواقع، برأي المفكر المصري الراحل "عبد الرازق"، هو أنّ الرسول لم يكن يسعى إلى تنظيم القضاء، وليس من مهامه ذلك: "وفي التاريخ الصحيح شيء من قضائه عليه السلام فيما كان يرفع إليه. ولكنّنا إذا أردنا أن نستنبط شيئاً من نظامه صلى الله عليه وسلّم في القضاء نجد أنّ استنباط شيء من ذلك غير يسير، بل غير ممكن، لأنّ الذي نقل إلينا من أحاديث القضاء النبوي لا يبلغ أن يعطيك صورة بيّنة لذلك القضاء ولا لما كان له من نظام، إن كان له نظام".
كما يقول: " لاحظنا أنّ حالة القضاء زمن النبي صلى الله عليه وسلّم غامضة ومبهمة من كلّ جانب، حتّى لم يكن من السهل على الباحث أن يعرف هل ولّى صلى الله عليه وسلّم أحداً غيره القضاء أم لا".
ويقول أيضا: "إنّ كل ما جاء به الإسلام من عقائد ومعاملات، وآداب وعقوبات، فإنّما هو شرع ديني خالص لله تعالى، ولمصلحة البشر الدينيّة لا غير، وسيّان بعد ذلك أن تتضّح لنا تلك المصالح الدينيّة أم تخفى علينا، وسيان أن يكون منها للبشر مصلحة مدنيّة أم لا، فذلك ما لا ينظر الشرع السماوي إليه، ولا ينظر إليه الرسول".
جدير بالذكر أن العديد من الكتب والمقالات صدرت ردّاً على مضمون كتاب "الإسلام وأصول الحكم ـ بحث في الخلافة والحكومة في الإسلام"، ممّا أثار عاصفة مؤثرة في الحياة الفكريّة والسياسيّة المصرية وقتذاك، منها كتاب بعنوان "حقيقة الإسلام وأصول الحكم" للشيخ محمد بخيت، وكتاب آخر بعنوان "نقد الإسلام وأصول الحكم" للشيخ محمد الخضر حسين، تمّ فيهما نقد أفكار الشيخ علي عبد الرازق.
وثمة أدلّة كثيرة في صحافة ذلك الزمان تؤكد انّ الشيخ المفكر علي عبد الرازق لم يقف ساكناً أمام منتقديه، بل خاض معهم معركة على صفحات الجرائد دافع فيها عن كتابه وأفكاره، وتحولت قضيّته إلى قضيّة تتعلق بحريّة الفكر والتعبير، ووقف إلى جانبه عدد من الكتّاب دفاعاً عن الحرية والفكر في مقدمتهم: " عباس محمود العقاد، محمد حسين هيكل، وسلامة موسى".
كما سانده حزب الأحرار الدستوريين، ودافع عنه كتّاب كثر في مجلتي المقتطف والهلال وجريدتي كوكب الشرق "الناطقة بلسان حزب الوفد" والسياسة "الناطقة بلسان حزب الأحرار الدستوريين"، واعتمدوا في دفاعهم عن أفكار الشيخ علي عبد الرازق على نصوص للمجدّد محمد عبده ذكرها في كتابه المعروف "الإسلام بين العلم والمدنية"- مقالات كان يرد فيها على مزاعم وزير الخارجية الفرنسي آنذاك بأن بلاده تدعم الحرية والسلام وتحتل البلاد لتطويرها وتنميتها وتحرير عقولها- حيث بيّن "عبده فيه "أنّ الحاكم الذي تختاره الأمة كالخليفة يمثل حاكماً مدنيّاً من جميع الوجوه، سلطة الحاكم مدنية، السلطان في الاسلام فردٌ تسري عليه كافة الأمور التي تسري على الآخرين، فإذا ارتكب خطأً فإنّه يجب ان يتعرّض للمساءلة والحساب… وليس في الاسلام سلطة دينيّة سوى سلطة الموعظة الحسنة والدعوة إلى الخير".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة