لابد أن يُدرِكَ كلُّ مثقفٍ، فضلًا عن المتخصص، الفارق الكبير بين العقليَّة التى تأخذ من كتبِ الفقه كلَّ شيءٍ من دون تمحيصٍ وتدقيقٍ فيما يصلح منه للتطبيق فى هذا العصر وما لا يصلح.
وبين العقليَّة التى تعرف الفارقَ بين الفقه بمعناه العامِّ من دون النظر إلى سياقاتِه وأثرِ هذه السياقات فى الاجتهاد وتخريج المسائل.
وما ينتج عن ذلك من معيارٍ دقيقٍ فى التمايز بين الفقه المطلق؛ الذى يُدَرَّس للطلاب للتدريب وتربية الملكات الفكرية والعقلية والتشبع بمخزونٍ كبير من المسائل التى تفيد فى القياس والاجتهاد والاستنباط. وهو ما يختلف عن الفتوى التى تَعْرف هذا الفقه للاستفادةِ منه والبناءِ عليه، ولكنها تغايره فى أثر الواقع فى إنتاجها والاجتهاد فيها.
إن الفقهَ الذى يدرسه المتخصص، فيه ما يصلح لكل زمان، وهو ما كان من الثوابت وهى قليلة فيه، أو من الأمور التوقيفيَّة التى لا تُعْرَف إلا من خلال النصوص الشرعيَّة.
وفى هذا الفقه أيضًا ما لا يصلح لكلِّ زمانٍ أو مكانٍ أو شخصٍ أو حالٍ، نظرًا لاختلاف الحُكْم فى مثل تلك المسائل باختلاف العادات، والأعراف، والمصالح المعتبرة، والمقاصد الشرعيَّة الـمَرْعيَّة، ومآلات الأفعال، وما يمكن أن نسميه «فقه الأولويات» الذى يشمل: تقديم درء المفسدة على جلب المصلحة، وأن الضرر الخاصَّ يُتَحمَّل من أجل عدم وقوع الضرر العام، وأنه إذا تعارضت مفسدتان يُرتَكَب أخفُّهما لئلا تقع أكبرهما، وتُقدَّم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة عند التعارض.
هذه الاختلافات والاعتبارات هى التى تُميِّز الفتوى عن الفقه عند إيقاع الحكم الشرعى على الواقعة أو الحادثة، وبإغماض الطَّرْف عن هذه المعانى الدقيقة تقع فى الأمم الفوضى والفتن والاضطرابات، وتزداد هُوَّة المنازعات والانشقاقات والتحزبات.
وهذا هو الجزء الأكبر مما تعانيه أمتنا فى هذا العصر، الذى أصبح فيه الناس بين مُبصِرٍ سَوِى يرى الأمور بكلتا عينيه، وآخَرَ يُغمِض عينيه معًا عن ثقافته وموروثه وعن واقعه وحاضره، وثالثٍ يغمض إحدى عينيه عن الموروث ويُبصِر الواقعَ وحده، ورابعٍ لا يرى إلا الموروث ويغيب عن حاضره الذى أوجده الله تعالى فيه.
هى قِسْمة رباعية يعيشها مجتمعنا ومَنْ حوله فى تلك الأوقات الفارقة من عُمْر الأمة العربيَّة والإسلامية، ومِن أسفٍ أن ذلك المربعَ المذكور لا يصح منه إلا ضِلَعٌ واحدٌ أمام ثلاثة أضلاع ليست معارضةً، ولكنها محاربةٌ له، بل تريد أن تقضى عليه كلما سنحت لها الظروف والأسباب.
وتلك الثلاثية هى ما نُسميها بـ«الفقه الأعور» أو «فقه العَوَر» إن لم يكن «فقه العمى».
لقد اقتضت سُنَّة الله فى خلقه أن تتعدد أوجه الخطأ والباطل، كما فى هذه القسمة الثلاثية، ليظل الصواب والحق واضحًا لكل مُتلمِّسٍ لطريقه أو مبتغٍ لسلوكه أو مُتشوِّفٍ للوصول إليه.
تصديقًا لقول الله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِى كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ﴾[البقرة: 143].
ولقول النبى صلى الله عليه وسلم عندما نزل قول الله تعالى: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾[الأنعام: 153]، فخَطَّ صلى الله عليه وسلم خَطًّا مُرَبَّعًا، وخطَّ خَطًّا فى الوسط خارجًا منه، وخطَّ خطوطًا صِغَارًا إلى هذا الذى فى الوسط من جانبه الذى فى الوسط، وقال: «هَذَا الإِنْسَانُ، وَهَذَا أَجَلُهُ مُحِيطٌ بِهِ- أَوْ: قَدْ أَحَاطَ بِهِ- وَهَذَا الَّذِى هُوَ خَارِجٌ أَمَلُهُ، وَهَذِهِ الخُطَطُ الصِّغَارُ الأَعْرَاضُ، فَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا، وَإِنْ أَخْطَأَهُ هَذَا نَهَشَهُ هَذَا». رواه البخاريُّ.
لقد ابتُلِينا فى هذا الزمان بأصحاب هذا «الفقه الأعور»، ممن لا يريدون ثوابتَ فى الدين أو الثقافة أو الهُوِيَّة، وعلى رأسها منظومة الأخلاق، ويرون كلَّ شيءٍ نسبيًّا ومتغيِّرًا. وآخرين يجمدون عند الثوابت وحدها من دون النظر إلى مقتضيات التطوُّر وتغيُّر الأزمان والاحتياجات والأعراف، فيصيبون المجتمع بالتجمد والانعزال والتخلف والتبعية لمستجدات الآخرين. وكلاهما ينتج «فقهًا أعور».
وهو ما يمكن أن نُعبِّر عنه كما أسلفنا، بفريقٍ لا يعرف إلا النصوص الشرعيَّة، وهو بمنأى عن الواقع وتغيراته الهائلة، خاصة فى زماننا هذا، ويدَّعى أنه يمتلك الحقيقة وحده، مستخدمًا سلاح النَّقل والشرع، مُلْغِيًا نعمةَ التفكير والعقل.
ويقابلهم من يهتم بالواقع ولا يلتفت لنصٍّ أو نَقْلٍ، ويظن أن ذلك هو التقدم والازدهار، من دون أن يشعر أنه بناءٌ ولكن من غير أساس؛ إذ المعرفة تراكمية وليست فجائية أو منعزلة عن حقائق الماضى وأصوله.
وكلاهما ينظر إلى طَرَفٍ من طَرَفَى المعادلة، فينتج «فقهًا أعور».
ومثل هؤلاء مَن ينظر إلى أحكام الشرع أو المقاصد الشرعيَّة، ولا يلحظ فيها مصالح الناس التى تُعينهم على عبادة ربِّهم وتزكية نفوسهم وعمارة كونهم.
ويقابلهم مَن يلتفت إلى المصالح من دون مراعاةٍ لمقصد شرعى أو وازعٍ أخلاقى؛ إذ إننا عند التحقيق سنجد أنه ما من مصلحةٍ حقيقيَّة للبشر إلا وقد رُوعيت فى نصوص الشرع فى جزئياته أو كلياته؛ لأنه ما جاء إلا لإسعاد البشر فى الدنيا والآخرة، فإن تعذَّر وجودُ نصٍّ أو نَقْلٍ فى هذا ومن خلال عقول العلماء والباحثين المعتدلين، فلنراجع تلك المصلحة؛ لأنه يغلب عليها أنها مصلحةٌ ولكنها مُتوهَّمة وغير حقيقية وضَرُّها أقرب من نفعها على صاحبها وعلى المجتمع كله.
إن الفكرَ المتطرف الذى تعانى منه الأمة الآن، وهو يحمل السلاح ضد بنى جنسه وبنى وطنه وبنى دينه، إنما أُتِى ودخله الخلل من ذلك «الفقه الأعور»، الذى ترك الحاضرَ واستشرافَ المستقبل وظلَّ فى دهاليز الماضى بصحيحه وسقيمه وصوابه وخطئه.
وهو ما أنتج فى المقابل، ومن خلال نظرية رد الفعل العكسي، «فقهًا أعور» من نوعٍ آخر، لا يعرف قيمةً أو خُلُقًا أو ثابتًا، وإنما رغباتٍ نفسيةً وهواجسَ خياليةً.
وكلاهما مُتبِّع لِـهَوَاه، ومِن ثَمَّ لن يُحصِّل فوائدَ أخراه أو منافعَ دنياه.
وما موجةُ الإلحاد ونَبْذ الدين والمسئوليات، إلا وجهًا مِن هذه الوجوه المتعددة لتلك الطامَّة المسماة «الفقه الأعور».
وفى الختام، فإن سُنَّةَ الله عز وجل سائرةٌ فى خَلْقِه بأنه لابد من بقاء الحقِّ وانتصارِه؛ لأنه شاملٌ لقِيَم التسامح والعفو والرحمة والتعاون والسلام والأمن والأمان والسعادة ليس لبنى الإنسان، بل لكلِّ الأكوان، تحقيقًا لقول الله سبحانه: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى الْأَرْضِ﴾ [الرعد: 17].
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة