"قبل أعوام، كان اسمى محمّد بهاء الدّين طّاهر.. أجل هذا الاسم المركّب.. هذا أنا، أو لعلّه ما سيتبقّى ولو بعد حين.." بهذه الكلمات يبدأ بهاء طاهر - الذى لا يحتاج إلى تعريفٍ - بتعريف نفسه، فى أول صفحة من كتابه الجديد "السّيرة فى المنفى"، والذى يبدأه بتحديد صورة دقيقة من خلال عنوانه، ومن ثمّ فالقارئ سيربط - بداهة - بين الكثير من الأحداث ووجهات النظر الواردة فى الكتاب، وبين ما يعرفه القارئ مسبّقًا عن الروائى بهاء طاهر.
ومن خطٍّ زمنى محدّد بلحظة اعتيادية فى حياته بدأ "طاهر" سرد الذكريات، وكأنّنا نطالع يومًا من أيّام حياته، أو كأنّنا قد حللنا ضيوفًا عليه فى منزله لنشاهد أسلوب معيشته، وفى الوقت نفسه حللنا ضيوفًا على وعيه وإدراكه وعواطفه ومشاعره، فيصارحنا بما لا يعلمه الآخرون.
يقول طاهر فى بداية "السّيرة فى المنفى": "أستيقظ مبكّرًا، أصليّ، أفتح التلفاز، أقلّب فى قنواته، أتمشّى ببطء إلى المطبخ، أجهّز كوبًا من الشاي، وأعود لأجلس على الأريكة، إمّا أقلّب فى التلفاز، وإمّا أقرأ فى جريدة أو كتاب"، لهذه الجملة الافتتاحية قدرٍ كبر من الأهمية، فبرغم ما بها من بساطة إلا أنّا تحوى بداخلها الكثر من الرسائل، كحيلة فنيّة- وهذه البساطة ستلازمنا حتى نهاية الكتاب- فهكذا يطلعنا على حياته اليومية، ساحباً عقولنا وخيالاتنا معه ونحن نقرأ، فهو من يعرف "القراءة قائلاً: "القراءة انقطاع عن العالم، كيما يُمكن أن نعيش فى عالمٍ موازٍ، هكذا أؤمن بها. نستمدّ أعمارنا، وخيالاتنا، وننقّح الذّاكرة، عبر القراءة".
كتاب "السّيرة فى المنفى"
بخفته ورشاقته وأسلوبه ولغته الممتعة يرسم الرائى الكبير بهاء طاهر - يرسم فى كتابه الجديد - شخصية راوى السيرة الذاتية، أو إن شئنا الدقّة فلنقل أنه يرسم الصّورة التى يرغب لنا أن نراها عنه، محدّداً مدركاتنا حولها، تاركة لنا التساؤل حول إن كانت هذه الصورة حقيقية أم غير ذلك، واقعية أم متكلّفة، فكل ذلك متروك لحكم القارئ.
وعن حرية الكتابة والإبداع يلخص لنا "طاهر" حياته وذكرياته مع هذه المعضلة التى تواجه المبدعين دائماً، حيث شهد حقباً مختلفة منذ الملكية وحتى الآن، قائلاً: "فى عهد الملك (فاروق) كان يتمّ حذف الأشياء التى لا تعجب الرّقابة، وكان من الممكن أن يكون الجزء المحذوف جملة، وكذلك أيضًا صفحة كاملة، وفى عهد (السّادات) كانت القاعدة المتّبعة أنّ بوسع المرء نشر أى شيء، ولكن يجب عليه تحمّل العواقب، أى أن يتمّ وضعه فى السّجن أو ألّا يُدفع له أجر عمله، ممّا كان يعنى أنَّه سيضطر عاجاً أم آجلاً إلى التخلى عن عمله".
ففى هذا الكتاب، يخرج بهاء طاهر عن صمته الطّويل، ويعود ليروى لنا سيرته الذّاتية بشكل آسر، يتجاوز فيه حدود الممكن، ويربط الذّكريات بالمأساة، الهمّ الخاص بالهمّ العام، جاعلاً القارئ يشعر به جالسًا أمامه وكأنّما يروى مشاهد حيّة لا زيف ولا ادّعاء فيها، مشاهد تعبرّ عن إحباطات عُظمى، وخطوات كبيرة تجاه الأمل، سينتزع من القارئ العاطفة رغماً عنه، ويدور به فى عوالمه القديمة الأخّاذة، والتى لم يطّلع عليها أحدٌ من ذى قبل.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة