اندلعت موجة باردة فى البلاد، سبقتها موجة أكثر برودة على صفحاتنا وأوراقنا و«تويتراتنا وفيسبوكنا». كأننا نتعرف على البرد للمرة الأولى، مع أننا ننتقل بين الحر والبرد منذ آلاف السنين، وذكرى الشتاء فى العقود السابقة ما تزال حية، يعرف أنه فى الشتاء يكون البرد، وفى الصيف يكون الحر.. لكننا فى زمن التهويل والتهوين والعويل لابد أن نقرأ «عشرميت» بوست يشكو أصحابها من البرد الزمهرير غير المسبوق، ويشرحون لنا عن حالاتهم، وكيف أنهم يعانون من تكتكة الأطراف ورعشة الأجساد ويناضلون فى مواجهة أعاصير تهتز لها الأشجار، وتنخلع لها القلوب وتطير منها العقول. «الدنيا برد موت»، بعد أن كانت «حر موت»، أيضا كما ورد فى البوستات الصيفية. وتبدأ الحفلة على صفحات التواصل ويستعرض كل واحد قدراته المبالغاتية فى تأكيد أنه قادر على وصف البرد بشكل يصيب القارئ والماشى والعائد بالبرد والإنفلونزا.
ولزوم كل هذه النهنهة نرى صراعات وحربا ضروسا، بين محبى الصيف وعشاق الشتاء. هو الضجيج الافتراضى المعهود، تغذيها تقارير الأرصاد وتحذيرات الخبراء والأرصاد، وتتفاعل معها نهنهات الجميع شكوى من الجليد البارد.
غالبا فإن من يكتب عن البرد ولاشك يفعل ذلك من مكان دافئ، لأن ملايين ممن تضطرهم ظروف عملهم للنزول، لن يجدوا رفاهية «التتويت والبوست واللايك»، فهؤلاء يعملون بصرف النظر عما إذا كانوا «لايك» أعمالهم أو لا. فى البرد «تتيبس» الأطراف ويعجز الواحد عن امتلاك كل هذا الهدوء السيبرانى والصمت التفكرى ليدبج «بوستا» فى مديح البرد والفرجة على زخات المطر تتساقط أمامه مطلا على «بويداء» العالم من فوق.. وكثيرون ممن يشكون البرد، متدفئين جالسين بكل استقرار ليكتبوا ويستعرضون مشاعرهم تجاه البرد والصقيع.
ملايين فرضت عليهم طبيعة عملهم أن ينزلوا ويشتغلوا، باعة وسائقين وصحفيين ومهندسين ومعلمين وتلاميذ ودروس خصوصية، ومن يتوتون- بلا حسد- جالسين فى مواضعهم يعيشون اللحظة ويقدحون زناد أفكارهم، بحثا عن إفيه أو تويتة تبلغ ذروة المبالغة ليحصل على لايك اللايك وشير لينضم إلى نجوم هجاء البرد أومديح الشتاء.
كل سنة نقرأ هذا، ولا نعرف إن كان الشتاء موجودا من زمان، أم أنه ولد مع «فيس بوك». مثل الحر غير المسبوق، نقرأ عنه كل عام. والمشترك الوحيد، هو المبالغة والتهوين والتهويل يجعل «فيس بوك» باردا ممطرا شتاءً، حار جدا صيفا افتراضى طوال العام، مع أن بردنا وحرنا موجودان من زمان، ولم نكن نقول على «النت».