المحرر الأدبى.. رجل الظل الذى "يصنع من الفسيخ شربات"

السبت، 03 ديسمبر 2016 06:00 ص
المحرر الأدبى.. رجل الظل الذى "يصنع من الفسيخ شربات" مشهد من فيلم أجنبى عن المحرر الأدبى
كتب ياسر أبو جامع

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

إن مهنة "المحرر الأدبى" ليست وليدة بسبب انتشار دور النشر، فقديما طلب الروائى العالمى نجيب محفوظ من طه حسين مراجعة روايته "أولاد حارتنا"، وكان الأديب العالمى جابرييل جارثيا ماركيز قد قال فى حوار له بإحدى الجرائد إنه قام بحذف ما يقارب من مائة صفحة من روايته "مائة عام من العزلة" استجابة لدار النشر، وكان جونترجراس يصطحب معه المحرر الأدبى الخاص به أينما ذهب، وهناك من الأخطاء الجسيمة التى وقعت لإغفال دور المحرر الأدبي، فمثلا رواية جوستاف فلوبير "مدام بوفارى" تغير فيها لون العينين من الأزرق إلى الأسود القاتم  إلى البني، ونشرت بهذا الخطأ الذى ظل مترددا ومتتابعا إلى يومنا هذا.

 

مهنة المحرر الأدبى:

مهنة المحرر الأدبى بالضبط مثل المحرر الصحفى "الديسك"، فرغم كونه خلف الأضواء قابعاً فى الظل إلا أنه رجل المهام الصعبة وبمثابة "الماشطة للدميمة" بالنسبة للعمل - خاصة ونحن نعانى من أزمات فى التعليم أفرزت أجيالاً لا تعرف إلى القليل عن قواعد اللغة وبين هؤلاء أدباء وكتاب - فمهمة المحرر الأدبى هى تجويد العمل بما يتوافق مع رؤيته، مرة بالإضافة ومرة بالحذف، وأن يكون على دراية كاملة بالراوى وأساليب السرد والحبكة الدرامية، والزمان والمكان وطبيعة كل منهما.

 

يتنقل المحرر الأدبى - أثناء مراجعته العمل الفنى - بحرية داخل النص محاولا كشف نقاط الضعف والتناقضات التى تأتى بين السطور والتى تناساها المؤلف، لتدارك ذلك قبل الطباعة والنشر، مرورا بعلامات الترقيم وتقوية الجمل بالتقديم والتأخير وإزالة بعض الجمل التى لا تدفع الحدث إلى الأمام والتبديل بين مواقع الجمل والفقرات حسب الاحتياج.

 

إذن لابد للمحرر الأدبى أن يكون ملماً بعناصر الرواية وتطورها ومحاولات التجريب وإدراك ما خفى على الكاتب، ومن هنا تستعين به دور النشر التى تقدم مادة يحترمها القارئ، فلا يجد ما يثير غثيانه، خاصة أن الأدباء الشبان أو من يكتبون الرواية لأول مرة يتنقلون بسرعة بين الأحداث من خلال تقنية التقطيع السينمائى فتبرز الكثير من الأخطاء والتضارب بين شخصيات الرواية، بل ربما تتداخل الشخصيات أيضا، ومن هنا فإن المحرر الأدبى يقوم بحمل عبء تجويد الرواية أو الكتاب من كل مناحى الضعف ليخرج العمل فى أجمل صورة.

 

المحرر الأدبى صاحب دار النشر:

عادة ما يكون صاحب دار النشر هو القائم بأعمال المحرر الأدبى، مرة بالتدخل ليقنع الكاتب بتحويل فقرات أو حذف أخرى ومرة بإجازة العمل من عدمه، ومنذ نشأتها تبوأت "دار المعارف" تلك المكانة حين كان صاحبها "شفيق مترى" يقوم بدور المحرر وأتى من بعده "عادل الغضبان" - أشهر من تولى عملية التحرير الأدبى لدار المعارف - وكان شاعرا جميلاً حيث كان يختار النصوص بعناية فائقة وله بصيرة حادة، مما ساهم فى رفع مكانة دار المعارف، ولكن الكثير من دور النشر التى توافدت بعد ذلك كانت تعتمد على ذاتها فى تحرير النصوص الأدبية سواء شعر أو رواية أو قصص قصيرة، وكانوا يكتفون فى ذلك الوقت بإجازة الأعمال الأدبية التى يتصف أصحابها بـ"الكتاب الحقيقيون".

 

المحرر الأدبى حديثاً:

فى فترة التسعينيات، لم تكن هناك دور نشر كثيرة، وكانت الهيئة العامة لقصور الثقافة وسلسلة إبداعات هى القبلة الحقيقية لكل كاتب مؤهل ومحمل بالإبداع الحقيقى، وكانت هناك لجنة قراءة مكونة من عدد من الروائيين يقومون بقراءة الأعمال وإجازتها أو رفضها، وكانت تلك اللجنة تتغير من حين لآخر، وكان ذلك التغيير يتسبب فى أزمات حقيقية للكتاب بسبب ضياع النسخ أو فقد التقارير ليتم قراءة الكتب التى قرأت مرة أخرى بما يجعل هناك إمكانية لرفض ما تم قبوله أو قبول ما تم رفضه، ولم تكن هناك دور منتشرة إلا دار "شرقيات" ودار "ميريت" لصاحبها "محمد هاشم"، وهى التى كانت تعنى بالأدباء الذين لا يحبون التعامل مؤسسات النشر التابعة للدولة، تلك الفترة كانت من أزهى فترات دار "ميريت" لأنها وبكل بساطة ونظرًا لتعسف الهيئة العامة لقصور الثقافة والفترة الطويلة التى كانت اللجنة المعنية بالقراءة تأخذها لمجرد مراجعة الكتب، وأزمة الروايات الثلاث-"أحلام محرمة" لمحمود حامد، و"أبناء الخطأ الرومانسى" لياسر شعبان، و"قبل وبعد" لتوفيق عبدالرحمن"-، كل ذلك أدى إلى نزوح جماعى للكتاب إلى "ميريت"، ومن المعروف أنها كانت تملك محرران أدبيان واحدا منهما للشعر وهو إبراهيم داوود والآخر للرواية وهو إيهاب عبد الحميد، ونظراً لثقل إيهاب وإبراهيم فقد أصدرت "ميريت" عشرات العناوين الرائعة والتى فرضت بها قبضتها على السوق المصرية للنشر فى تلك الفترة.

 

الأدباء الجدد:

فى الآونة الأخيرة زادت دور النشر الخاصة بشكل كبير، وكان لا بد من دور حقيقى للمحرر الأدبى نظرا لكثرة الإصدارات التى انهالت كالمطر عليها مما أدى إلى ازدهار وظيفة المحرر الأدبى المتفرغ لدور النشر فقط، فيقوم بقراءة الأعمال وإجازتها وتعديلها وتغيير العناوين بما يتوافق مع البنية التسويقية للدار، وأيضا فى إزالة ما يراه عبئا حقيقياً على الرواية.

 

كما تجاوز الأمر وجود محرر أدبى واحد لكل دار، فأصبح هناك دور نشر تشكل لجنة كاملة للقراءة والمراجعة والتدقيق الأدبى والنحوى، وأصبح هناك اهتمام زائد لبعض دور النشر يقابله إهمال من البعض الآخر نظرا لسياسة النشر، التى تعتمد على النشر بمقابل مادى كبير يتراوح ما بين الثلاثة آلاف والستة عشر ألف جنيه  للرواية الواحدة، وأغلب هذه الدور لا تعتمد على المحرر الأدبى من الأساس لأن الربح لديها فى المقام الأول بما يعنى توفير نفقات المحرر الأدبى وتوفير نفقات المدقق النحوى.

 

وظهرت الدور التى تقتصر على النشر للشباب، والذى لا يعنى بالكتابة فى المقام الأول بقدر ما يعنيه رؤية إصداره منشورا يتباهى به وبحفلات التوقيع التى يدعوا إليها أصدقائه بغرض السمعة فقط، ونظرا لغياب دور الناقد – اللهم إلا قليلا- ونظرا لأن الناقد الفعلى لن يكتب دراسة عن ترهات العمل، فإن هؤلاء خلطوا الغث بالسمين مما جعل هناك حالة من التعميم الكلى على حساب الأدباء الحقيقيين والكتاب القادرين على الإمساك بزمام الكلمة الحقيقية.

 

المحرر الأدبى الفاضح:

ما سبق، أدى إلى لجوء بعض المحررين لاتخاذ صفحته عبر مواقع التواصل منارة يقوم فيها بسب الكتاب الجدد أو القدامى ممن أرسلوا أعمالهم لدار النشر التى يعمل بها، متفننا فى إظهار العيوب وربما يصل الحال بأحدهم لسب الكاتب الشاب بتورية مفهومة، ولكن ما يجهله الكاتب المحرر بالأساس هو أن عمل التحرير الأدبى لدور النشر يجعل المحرر يقرأ الجيد والضعيف، ووظيفة المحرر هى جعل الضعيف قويا، أى أنه يعمل ماشطة للدميمة ومقوماً لاعوجاج النصوص الأدبية، وكما يقول المثل العامي: " يصنع من الفسيخ شربات"، أى أنه أحيانا يمنح الكاتب الشاب بعضا من لغته لتقوية العمل، ويمنحه الأسلوب أيضا فى بعض الأحيان، ويمنحه رؤيته فى الرواية، ولهذا فقط  وجد المحرر الأدبى الرجل القابع فى الظل.










مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة