فى البداية، أقر أننى لا أوافق على ما فعلته الكاتبة «غادة السمان»، التى قامت بنشر رسائل شخصية، وجهها إليها الشاعر «أنسى الحاج» سنة 1963، ولم تنشرها سوى بعد رحيله، فلم نعرف رأيه إن كان يوافق على نشر كتابات شخصية أم لا، لكن دعونا ننحى هذا الرفض جانبا ونتأمل الرسالة وطريقة أنسى الحاج فى الحب.
يقول أنسى فى إحدى رسائله «المسألة بحاجة إلى وضوح وأنا إلى فهم: أن يفهمنى أحد وأن أفهم نفسى لم أشعر هذه المرة بالرعب أمام حالى.. إنها المرة الأولى التى يجرفنى فيها الشعور إلى هذا الحد الرهيب بأننى على وشك الجنون، فلقد كنت دائما مع نفسى حتى فى أحلك ظلماتها، كنت دائما وحيدا ومع هذا كنت أحيطها وتحيطنى، وأعلم أن فىّ شيئا جيدا هو حصانتى وهو قيمتى وهو خلاصى فى النهاية، والآن يبدو لى أننى أضعت كل شى أضعت حتى أسرارى وأنا أيضا ضعت فى نفسى، هل تدركين معنى هذا؟ لقد تمرد فىّ وعلىّ.. تمردى القديم على العالم التمرد الذى كنت بواسطته أرد الفعل وأندلع من قلب وحدتى كالنار».
هل لاحظتم مدى الأدبية التى احتوت عليها الكتابة، هذه الرسالة محملة بكثير من الإبداع الذى يعكس صورة لما كان عليه المجتمع الثقافى فى هذه الفترة، فالمبدع يعرف أنه حتى فى كتابته الشخصية لا يجوز التنازل عن جزء أساسى من شخصيته وهو أنه شاعر ومبدع وأن حديثه عن نفسه والحب يصلح أن يكون نصا أدبيا.
وحتى نفهم ذلك جيدا علينا تخيل شكل الكتابة الشخصية الآن، وأن نقيم مقارنة بسيطة بين ما كتبه «جبران» لـ«مى زيادة»، مثلا وما كتبه «العقاد» لها وما نشرته غادة السمان من قبل عن رسائل غسان كنفانى وبين ما نكتبه لحبيباتنا، وحينها سنعرف الفارق بين الحالين بين الزمن الجميل والزمن المشوه.
حاليًا نكتفى بالجملة والجملتين الخاليتين من الخصوصية والتفرد، نقول «أكليشيهات» أكلها الزمن، لا نحدثهن عن حالنا وتقلباته، بل نتحدث عن المشكلات التى تواجهنا ونعجز عن مواجهاتها، لغتنا أصبحت حادة وتكاد تكون جافة، نكتفى بـعبارات قصيرة من تأثير موقع التواصل الاجتماعى «تويتر»، وإن ذكرنا جمالهن فإن غزلنا عادة يكون منقولا من أحد الكتب التى تباع على أرصفة القطارات.
بغض النظر عما فعلته «غادة السمان»، لكن كل الشكر للشاعر الجميل «أنسى الحاج» الذى أشعل فينا جذوة الكتابة للحبيبات بلغة شعرية، نحكى فيها عن تقلب الحال وما يفعلنه الجميلات بقلوبنا المثقلة بالهموم.