يبدو مفهوم الحركة لدى من يحملون هذا النوع من التدين مقترنا بـ«المكر» أو بما أطلق عليه الفقهاء قديما «الحيل»، ويتوسعون فى المصلحة حتى تبدو وكأنها مصلحة بالمفهوم النفعى ذات الطابع العقلانى غير المرتبط بالقيمة، ومن المعلوم أن الأصوليين قد اعتبروا أن المصالح التى لا دليل لها من الشرع لا تعد مصلحة، حتى وإن اعتبرها من اعتبرها مصلحة، فالمصلحة إما أن يكون عليها دليل شرعى واضح، أو ألا يكون، وتلك «المرسلة» ضبطها الأصوليون بمعايير تربطها بالقيمة وتحررها من التلاعب البشرى بالمفهوم.
حين كان الأصوليون يتحدثون عن مفهوم المصلحة لم يربطوه بتنظيم معين ولا جماعة معينة، وإنما اجتهد فيه المجتهدون للأمة جميعها، كانوا يجتهدون للأمة فى تقريب مسائل الدين إليهم وتحبيبها لأنفسهم وتيسيرها عليهم، وليس موقف الفقه الإسلامى واحدا من مفهوم المصلحة، بل إن هناك مذاهب فى هذه المسألة للمالكية مسلكلهم وللشافعية مسلكهم وللطوفى قوله الشاذ الذى جعل من المصلحة مركزا معتبرا حتى لو تعارضت مع القيم الإسلامية ونصوص الشريعة الغراء، فالمصلحة لا تسبق النص، وإنما تأتى بعده وفى إطاره وضمن مقاصده.
نبذت الأمة وفقهاؤها مذهب الطوفى، واعتبرت مذهب الأمة فى المصلحة أن تكون وفق النص ودائرة فى فلكه، وشاع علم مؤسسى تلك القضية الأصولية بين طبقات العلماء، كل وفق طريقته ومنهجه فى التفكير، لكنه لم تأت جماعة من دون المسلمين والمؤمنين لتقرر هى المصلحة وفق ما تراه هى، ووفق ما يجتهد بها مجتهدوها دون بقية الأمة والمسلمين، وهذه إحدى المعضلات الكبرى فى التدين الحركى أنه يأخذ قواعد الأصول التى أسسها العلماء المتمكنون فى فهم الشريعة لينقلها إلى مجال حركى مختلف عن سياقها من حيث إنها مستنبتة فى بيئتها الأصلية وهى علاقة الشريعة بالواقع وعلاقة الأمة كلها بمسيرة حياتها وتفاعلها مع الواقع، وأن من قام بذلك هم علماء متخصصون فى الشريعة والأصول وآخذون بناصية تخصصهم، بينما الانتقال إلى المجال الحركى هو مرتبط بجماعة دون بقية الأمة والمصلحة التى تعتبرها هى.
مصلحة تلك الجماعة وليست مصلحة الأمة كلها، وبينما علماء الأصول والفقه عينهم بالأساس على ربط مفهوم المصلحة بالشريعة فإن مفكرى التدين الحركى والفاعلين وفق منطقه وفى نطاقه تكون عينهم على تحقيق منفعة الجماعة وإحداث النكاية فى خصمهم وعدوهم بصرف النظر عن النتائج المترتبة على الأهداف الحركية لتلك الجماعة، أى أن المصلحة هنا يجرى توظيفها فى سياق مشروع لجماعة معينة أو محددة تسعى لتحقيق هذا المشروع بصرف النظر عن الوسائل التى تعد مصلحة فى نظرهم، يعنى أنه يجرى استخراج مفهوم المصلحة من منظور الفقهاء من على رف المصطلحات الأصولية دون تدقيق فى معناه والذهاب قدما لتحقيق مشروع التنظيم، ففى ذلك المشروع وتحقيقه المصلحة. هنا فى الحقيقة تتحول الجماعة إلى معبرة عن الأمة كلها، وتتمثل روح الأمة، وتبيح لنفسها استدعاء مفهوم يبرر لها تحقيق مشروعها باسم الأمة، فى نطاق مختلف عن السياق الذى أوجده، ولنسرع بضرب مثال على ذلك فى البيان الأخير للعقاب الثورى، إحدى الجهات التى أعلنت مسؤوليتها عن حادث المريوطية الذى قتل فيه مدنيون أعلنوا أسفهم عن القتل وأنهم سيدفعون ديتهم حين تحكم الثورة.
هنا هؤلاء الشباب اعتبروا أن من يقتلونه من المدنيين فى سبيل تنفيذ عمليتهم هو من المفسدة التى لا يمكن مدافعتها إلا بتحقيق مصلحة التنظيم فى قتل الضباط، وبالتالى فالمفسدة التى لا يمكن دفعها إلا بتحقيق مصلحة أكبر منها تكون مباحة وفق قاعدة «الضرورات تبيح المحظورات» التى أشرت إليها فى المقال السابق.
يضع المتدين الحركى نفسه فى دائرة الضرورة والمصلحة، وهو فى سعيه نحو تحقيق ما يتصوره هدفا له ينزلق من خطر إلى خطر أكبر، ومن انتماء إلى جماعة أو تنظيم يتصور أنها ستدفعه إلى تحقيق الدين فإذا به يتحول إلى أداة فى مشروع لجماعة أو تنظيم ينحدر فيها حتى يقدم باسم المصلحة والضرورة إلى اقتراف الدم الحرام المعصوم، إن سياق التدين الحركى يقوم على الخديعة والمكر والاستثناء، ويحولها جميعا إلى قاعدة فى عمله وحركته وحياته التى يتحول فيها إلى مجرد أداة ينفذ مخططات وضعها غيره.. وللحديث تتمة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة