جلس على المقهى بجانبى على المقعد المجاور، ذات صباح بارد قبل سنوات بعيدة جدا، بجلبابه ذى النقوش والألوان الزاهية وبعينيه الغائرتين ونظرته الخاوية والخالية من أى معنى.
أذكره جيدا وهو يضع ساق على ساق غير عابئ بمن حوله من روّاد المقهى، يقضى أغلب يومه هادئا من غير انفعال، وبعض من اليوم تثور حالته بدون مبرر منطقى نعرفه.
على غير عادته، قام منتفضا غاضبا ثم رفع بعصبية الكرسى المعدنى الذى كان يجلس عليه ثم لوّح به فى الهواء فى حركة دائرية، ثم ألقى به بقوة لا تتناسب مع ضآلة جسده وكبر سنه.
أتبعت بصرى وراء الكرسى فوجدته يشق مساره فى الهواء وكأنه يعرف طريقه جيدا، حتى اصطدم بزجاج أمامى لسيارة حديثة للغاية كانت تتهادى مقبلة نحونا ليقع الاصطدام بين الكرسى والزجاج مُحدثا دويا أفزع رواد المقهى وأثار قلق البعض من سكان العمارات المجاورة ففُتحت نوافذ وشرفات لاستطلاع الأمر.
ثوان معدودات نزل من السيارة صاحبها، يرتدى حلة أنيقة وعلى وجهة نظرات غاضبة، متوعدا وملوّحا بطبنجة، باحثا وساعيا وراء من فعل تلك الفعلة الشنعاء.
ظل "أنور" على حاله وفى جلسته لم يغيّر وضعيته برغم حالة الصخب من حوله، نظر صاحب السيارة للزجاج المهشم ولأنور ثم لنا وهو فى حالة مضطربة من الغضب الشديد، وتبادلنا معه نظرة بنظرة.
بعد فترة صمت أوضح أحد روّاد المقهى، وكان رجل عجوز تقطر الحكمة من لسانه، أن الفاعل ليس بحالة طبيعية وأنه هارب منذ أيام من الدور الخامس بالمستشفى العام، ولا ينبغى أن تؤاخذه عمّا فعل، فالمؤكد أنه لا يقصدك أنت بالذات، فقط ربما استفزه منظر السيارة وسيرها الذى شق صمت المكان وعكّر عليه حالة التأمل التى تستغرقه فترات طويلة من يومه.
استغرقتنى حالة من الضحك الهيستيرى من عبثية الموقف برمته وأنا أدور بعينى ما بين "أنور" وصاحب السيارة والزجاج المهشم والكرسى الملقى على أرض الشارع والعجوز الحكيم، ثم تنبهت فجأة إلى أن موعد الحضور الصباحى بالعمل أوشك على الانتهاء وأنه ينبغى أن أُهرع من فورى.
ناس تجلس على مقهى - أرشيفية
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة