مالك بنى، يكاد يقتلك الهم لازلت صغيراً على ذلك يا ولدى فهون عليك.
يسكت الولد قليا ثم يقول، ما عاد الهم والقلق يفرق بين صغير وكبير، وما يدور من أحداث فى بلادنا العربية بشكل عام، وفى مصرنا بشكل خاص، يثير قلقى، وكأن الدنيا توقفت أمام عينى فلا أرى لها مستقبلا، ولا أعرف لها طريق يمكن ألا أتوه فيه.
يا بنى أعرف ما أنت عليه، وأقدر الأسباب التى حملت إليك ذلك الشعور، لكن يا بنى قبل أن يأخذ بك التشاؤم حول الطريق إلى المستقبل، عليك يا ولدى أن تراجع الماضى، عليك أن تعيد النظر لأحداث التاريخ التى دارت مشاهدها على تلك الأرض.
يا جدى وماذا يصنع التاريخ، وسالف الأحداث فى غابر الزمن، أليس ذلك دفنا للرأس فى الرمال، وهروبا من الواقع المؤلم إلى ماضى بعيد يصعب استرجاعه.
يا ولدى ما تقوله ليس فى الحقيقة سليماً على اطلاقه، فأنا لا أدعوك للماضى كى تعيش فيه وتنسى حاضرك، فلا تصنع مستقبلك، ولكن أدعوك اليه، لأن فيه العبرة، ولان لله فى كونه سنن لا تتبدل ولا تتغير، فلما لا نتعلم من أخطاء السابقين فنتداركها، ولا نكررها، ولما لا نتعلم منهم كيف حققوا تفوقهم، فنسير على خطاهم.
يا ولدى لا يخفى عليك، وأنت تقرأ القرآن، أن أسلوب القصة، يعد من الأساليب الرئيسية لتوصيل فكرة، ولتوضيح معنى، ولا يخفى عليك أن القصص القرآنى دائما يأتى متبوعا بدرس أو عبرة ،أو فائدة.
صدقت جدى، فجميع النماذج التى نراها فى حياتنا، لها أمثلة متشابهة فى القرآن الكريم، فالحاكم المستبد، أقرب الشبه بفرعون، والغنى الذى يبخل بماله عن فقراء بلده، أقرب الشبه بقارون، والذين يبدلون القول عن مواضعه، أقرب الشبه ببنى اسرائيل، وهكذا.
نعم يا ولدى لذا، أقول لك، قبل أن تضل طريقك نحو المستقبل، أعد أدراجك نحو الماضى قليلا، ليس لمجرد السرد التاريخى للأحداث، ولكن لنعرف نقاط القوة التى يجب ان تتمسك بها، ونتفادى نقاط الضعف التى قد تعصف بك وبنا. فتاريخ الإنسانية كنز عظيم حافل بالتجارب، وخطا كبير أن يقع الحكيم فيما وقع فيه السابقون ،وما ضلت أمتنا إلا يوم غفلت وتغافلت عن تاريخها، وتاريخ البشر. يا ولدى تعالى معى نعيش فى زمن مضى فاسمح لى ان آخذك إلى مصر، ليست مصر الحاضر ولكن مصر قبل سنين مضت آخر عهد الآيوبين وبداية عهد المماليك !! نحن الآن فى مصر وكل البلاد حولها قد دمرت وابيدت خضراؤها كل البلاد حولها تخطفت كما يتخطف الطير.كل البلاد حولها حطمت ودمرت وقعت تحت يد عدو يعيش على شهوة القتل والتدمير انهم التتار. دمروا كل بلاد الاسلام من سمرقند إلى الشام وحتى حدود مصر، حتى بغداد وهى حاضنة الخلافة الاسلامية سقطت. فماذا تبقى ؟؟ بقيت مصر وحدها بل بقى للإسلام مصر فقط، وهاهو الدور يأتيها وجيوش التتار تعزم على اقتحامها، وهم جيوش لا تبقى ولا تذر، اشيع عنها انها لا تقهر فهل تستطيع مصر وهى الوحيدة ان تفعل ما لم تستطع اكثر من 20 دولة أن تفعله ماذا تملك مصر حتى تقاوم، وهى فى هذا الوقت بالذات من الضعف الشديد، وحاكمها صبى لا يعقل ولا هيبة له، اختير فقط ليس لأنه كفء ولكن لأنه ابن عز الدين ايبك الذى مات مقتولا وبعد قتله قتلت من حرضت على قتله وهى شجرة الدر.اذن الوضع كله اضرابات وصراعات وأمراء نهبوا قوت الشعب.. اذن ما الذى تملكه مصر حتى تبقى ووهى الوحيدة والدور عليها، وهاهى جنود هولاكو ننبعث كالجراد تمر على البلد فتتركها هشيما كان لم تغنى بالأمس وهى الان على مشارف مصر فأى جيش يقف أمام جنود هولاكو بعدما اسقطت الخلافة وجيوشها وسقط فى ايديهم جل بلاد المشرق والمغرب.
فماذا فى مقدور مصر ان تفعل.. وما الذى تملكه والحال كذلك، إن مصر كما كانت تملك رجلا قل أن يجود الزمان بمثله هذا الرجل آمن ان ذلك الشعب شعب اذا ناداه داعى الحق اجاب هذا الرجل علم ان هذا الشعب نصرة الاسلام تجرى فى عروقه، وان ذلك الشعب ما دعى يوما للتضحية وبخل أبدا ،، هذا الرجل علم ان هذا البلد طيب أمين، فصرخ فى الجميع يأ اهل مصر اثبتوا واعدوا عدتكم وانا أضمن لكم النصر وكان يقسم على ذلك ويقول وعد الله لا يتبدل "إن تنصروا الله ينصركم "
ما كانت تملكه مصر يا ولدى شيخا جاء اليها من دمشق انه سلطان العلماء وبائع الأمراء. يهابه الملوك وتطيعه العامة.
شيخ لم يرى تاريخ الاسلام كله عشرين من امثاله. هذا الشيخ كان له الموقف الذى انقذ الله به الحضارة وحفظ الإسلام وغير مجرى التاريخ انه "العز بن عبد السلام"هب ذلك الرجل وحده يوقظ النائمين ويحى القلوب ويشحذ الهمم ويستنفر الجميع.ايقظ الشعب فاستيقظ، وجمع الأمراء فذكرهم كيف جاؤا مماليك يباعون كما يباع المتاع فجعلهم هذا البلد ملوكا ،فمن حقه عليهم ان يدافعوا عنه، وعن أرضة وعن الحضارة التى أظلتهم بظلالها.، عن الاسلام الذى شرفهم الله به، قائلا لهم فى عزم تخر له الجبال: هل تتركوا التتار يقتلعوا هذا الحضارة من جذورها، ويقضوا على كل ديار الاسلام، فمن للإسلام غيركم ؟،. فاستمعوا له وأطاعوه وعزلوا الطفل الذى كان يحكم مصر وعين مكانه قائد بارع ماهر متخلق بأخلاق الاسلام اسمه قطز ،ولقبوه بالظافر، وكان به جدير. وهاهم الآن بعدما أجابوه واستمعوا له يقولون اننا فى حاجة للأموال كى نجهز الجيوش ونعد العدة وندرب المتطوعين ونشيد المصانع اللازمة للسلاح. وأنت تعلم ان البلاد فقيرة واقتصادها ضعيف.... نريد ان نفرض على الشعب الضرائب كى نزيد من ميزانية الدولة.
فقال الشيخ الجليل، مصر ما هى بالفقيرة، انما انتم نهبتموها واكتنزتم خيرها، فاخرجوا ما اخذتموه دون وجه حق، وأعيدوا انتم للشعب امواله، وليخرج جميعكم ما لدية حتى نستطيع تجهيز الجيوش فان لم تكفى اموالكم وما فى خزائنكم عندها نقول للشعب اخرج لنكمل ما لم نستطع اتمامه.واخرج الامراء ما عندهم كله واكتشف الجميع ان البلد فعلا غنية وأن الاقتصاد قوى، وأنهم يستطيعون فعلا بناء جيش قوى.. وشارك الشعب المناضل حين رأى مبادرة الامراء واخرج كل واحد ما فى وسعة طواعية دون فرض أو جبر.وأقيمت معسكرات التدريب، فى كل مكان واهتز البلد الطيب مصر بالهتاف والتكبير حتى صار المصرى كل مصرى يشتهى الوصول إلى المعركة كما يشتهى الحبيب وصال محبوبته.
وجاء اليوم وجميعنا بالتأكيد يعرفه ومن منا لا يعرفه وهو اليوم الذى غير مجرى التاريخ، وبه تدين الحضارة كلها لمصر. انه يوم عين جالوت، فى رمضان سنة 658 هجرية خرج فيه جيش مصر فى أتم استعداده، بتقدمه أمراء المماليك، وإن كان المماليك حكام سوء، إلا انهم والحق يقال أرباب حرب وأبطال قتال.
وكانت معركة خاف فيها الخوف، وانتصر فيها جند مصر، لتضاف هذه المعركة لسجل المعارك المقدسة فى تاريخنا، ولتدين الحضارة الإنسانية كلها لنا بالفضل.، وانهزم التتار الذين انهارت أمامهم كل قوة. وظفرت مصر نعم ظفرت مصر بصدق رجل واحد فأنت أمة وإن كنت وحدك، وسيكون لها الظفر والنصر الآن بإذن الله وما فى ذلك شك، فمصر كانت ولاتزال وستظل قادرة وإن ظن الجميع أنها خاوية الوفاض.
شخص حزين - أرشيفية
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة