أسوأ ما يصيب الدول النامية ما يطلق عليه الأوبئة النفسية، فكلما انتشر الفقر والجهل والمرض والبطالة وزادت المشاكل الشخصية والاجتماعية والاقتصادية وساءت الأحوال بشكل عام أصبح المجتمع كله فريسة لعدد من الأمراض النفسية التى تنهش فى إنسانيته وتحطم آدميته فيتحول بالتدريج إلى مجتمع متوحش أقرب للحيوانية وللسلوك الانفعالى والفوضوى.
والأوبئة النفسية التى تصيب هذه المجتمعات تتكون من مزيج من الأمراض التراكمية المتداخلة منها العدوانية والاكتئاب والإسقاط والوسوسة والأرق والكوابيس والاغتراب وافتقاد التواصل وتقلص العلاقات والتقوقع، لذلك اطمئن فما تمر به أعراض طبيعية وليست ظاهرة مصرية أو إقليمية، علينا أن ندرك أننا جميعًا أصبحنا مرضى نفسيين أو على الأقل أغلبنا والباقى بيشاور عقله. هذا الإدراك هو أهم خطوة فى العلاج لأن عدم الاعتراف بأن مصر كلها أصبحت عاصمة للعباسية سيزيد من حجم المشكلة، فعدم مواجهتنا لأنفسنا بهذه الحقائق وتجاهلها ثم الانتقال لمرحلة التعود والتعايش مع هذه الأوبئة سيكون أشبه بعملية إبادة لكل شىء جميل عرفناه فى مجتمعنا أو فى هذه البلد. طبعًا حضرتك قلبت (وشك) وعوجت (شفتك) لما قلت لك كل شىء جميل عرفناه فى البلد. (عادى هذه أعراض طبيعية للوباء النفسى، الإحباط واللامبالاة بأى إيجابيات) وإن كان عندك حق لأن الإيجابيات فى مجتمعنا أصبحت نادرة جدًا أو لأنى أنا أيضًا مصاب بالوباء فأراها كذلك.
على أى حال اعترافنا بالوباء سيحل العديد من الألغاز التى نعيشها وسيجيب على العديد من الظواهر الحيوانية التى انتشرت فى سلوكيتنا والتى لا تنفع معها حملة أخلاقنا بل تحتاج حملة إحراقنا.. فالعنف الغريب الذى انتشر فى الشوارع إلى حد القتل والتمتع بالدم هو عدوانية مفرطة خرجت من إطار السيطرة إلى الجريمة. والمرض هنا حينما يخرج من إطار السيطرة لا يعرف الفرق بين المجرم والضابط وأمين الشرطة ولا يفرق بين أب حنون أو أب خانه الجنون أو طفل مات مخنوقًا أو طفلة مذبوحة. أنا لا أبرر هذه الجرائم بل أعتبرها شواهد مخيفة على انتشار الوباء وفقدان السيطرة عليه من قبل الكثيرين والذين غالبًا ما نطلق عليهم لقب سفاحين أو مجرمين حتى نريح أنفسنا من المسئولية أو التفكير. ورغم أن انتشار هذه الجرائم هو أفظع ما يصيب أى مجتمع خاصة مع تداخل الأحداث بحيث إن كل جريمة أصبح لها بعد سياسى أو اقتصادى، إلا أن المصائب الكبرى تكمن فى التفاصيل الصغيرة وهناك الكثير من الضحايا لأمراضنا الجماعية ولكننا لا نشعر بذلك.
فعلى سبيل المثال ظهرت أخبار منذ فترة عن أحد الشباب المصريين المجتهدين اسمه أشرف البندارى حاول أن يصنع سيارة برمائية طائرة تعمل بتوليد الطاقة الكهربائية الذاتية وصممها ومعه فريق من الفنيين على مدار سبع سنوات وكلفها حوالى 400 ألف جنيه من ماله الخاص وكان هدفه أن يتم استخدمها فى العديد من المجالات الخدمية خاصة الإسعاف لأن الرجل فقد ابنه بعد أن أصيب فى حادث وعجزت سيارة الإسعاف التقليدية أن تصل إليه فى الوقت المناسب. وأطلق الرجل على اختراعه اسم الوحش المصرى وحاول أن يجرى تجربة عملية فى ميدان التحرير ولكن التجربة لم يحالفها النجاح الكامل وهذا متوقع فى التجارب الأولية لأى اختراع جديد. المهم فى ذلك. أنه حينما يسمع ويعرف الناس الأسوياء هذه القصة وهذه الفكرة وهذا المجهود وهذا الدافع المأساوى فسيكون رد فعلهم الطبيعى هو التشجيع والدعم المعنوى والمساندة وحينما يظهر هذا الشاب فى أى مجتمع صحى ومتحضر سيجد بعض الجهات التى تسانده علميًا أو ماليًا لتحقيق طموحاته فى اختراع هذه السيارة. لكن الوباء النفسى وما يحمله من عدائية وإسقاط للضعف والفشل الذى نشعر به جميعًا. جعلنا نأخذ هذا المجهود بدوافعه المأساوية إلى خانة التهريج والضحك والسخرية الجارحة فأصبح الرجل بين ليلة وضحاها مسخرة لمواقع التواصل والصحف والفضائيات وخرج العلماء والمسئولين يستهزئون بمجهوده وكأنهم يتشفون فيه فكان من الطبيعى أن ينهار الرجل نفسيًا ويحرق اختراعه ويرميه فى إحدى الترع وهو يبكى ابنه ومجهوده وحلمه ويتحول من عنصر فعال مجتهد إلى التقوقع والسلبية والإحباط.
هذه الدراما المأساوية انتشرت بشكل فظيع فى كل المجالات فما من مؤسسة أو هيئة أو تجمع وظيفى إلا ونرى هذا الإسقاط النفسى العدائى على كل المجتهدين أو الذين يحاولوا أن يبدعوا أو يغيروا أو ينجحوا. لذلك قالوا قديمًا إن التفاحة الفاسدة تفسد ما حولها من تفاح ناضج فما بالكم بتفاحة صالحة وسط كل هذا التفاح الفاسد.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة