ننشر نص كلمة شيخ الأزهر بعد منحه الدكتوراه من إندونيسيا

الأربعاء، 24 فبراير 2016 12:35 م
ننشر نص كلمة شيخ الأزهر بعد منحه الدكتوراه من إندونيسيا الإمام الاكبر بعد منحه الدكتوراه بإندونيسيا
رسالة جاكرتا لؤى على

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
بعد منحه الدكتوراه الفخرية بإندونيسيا، تقديراً لجهوده الدينية، ألقى الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، كلمة بتلك المناسبة.. وهذا نصها:

فإنَّه ليُسْعِدَنى حقًا ويُشرِّفنى أن ألتقى بكم أيها السادة العلماء والشباب الباحثون وطلاب العلم، فى رحاب «جامعة مولانا مالك إبراهيم الإسلامية الحكومية»، وأن أشم عطر البحث العلمى فى أجوائكم، وأرى الشوق إلى المعرفة فى عيونكم، حتى إنى لأغبطكم -عَلِم الله-لما أنتم فيه، وقد أثرتم حنينى إلى أيام التبتل فى محراب العلم، والتنقل فى أروقة الجامعة، والتمتع بتذوق نص تراثي، أو باكتشاف فكرةٍ جديدة، أو بتوجيه باحثٍ شابٍّ إلى أقرَبِ الطرق إلى بغيته المنشودة.

يعرف شعورى هذا جيدا، مَن اتخذ -عن قصد واختيار-التعليم مهنةً ورسالةَ حياةٍ، وهى رسالة الأنبياء من قبل، ويكفى المعلم شرفًا قوله ?: «إنما بعثت مُعلِّمًا»، كما يُقدِّر هذا الشعور مَن ذاق حلاوة اكتشاف الحقيقة بعدَ عَناءِ البحث وطول التأمل وصدق الطلب؛ وقد كان حجة الإسلام الإمام الغزالى -رحمه الله-كثيرًا ما يُردِّد: «سُئِلَ حكيم: ما السعادة؟ فقال: هى فى حجة تتبختر اتضاحًا، وشبهة تتضاءل افتضاحا».

وعندما كانت أمَّتنا -أيها السادة! - تمارس الفروسية، ويثب شبيبتها على الخيل وثبًا لم يكن فى شعورها وذوقها العام ما ينافس مُتعة الفروسية بحركاتها البارعة الرائعة، إلا الجلوس الهادئ إلى صفحات كتابٍ، وكثيرًا ما ردَّد أبو الطيب المتنبى -رحمه الله-:

أعزُّ مكانٍ فى الدُّنا سرجُ سابحٍ *** وخيرُ جليسٍ فى الزمانِ كتابُ

إن المعرفة هى أعز ما يطلب، وهى أول واجب على العقلاء، وهى تراث الأنبياء: ((إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا إِنَّمَا وَرَّثُوا العِلْمَ))؛ وهى مفتاح باب الجنة: ((مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ))؛ وهى عِصمة الأمة من الضلال والتيه: «إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْزِعُ العِلْمَ بَعْدَ أَنْ أَعْطَاكُمُوهُ انْتِزَاعًا، وَلَكِنْ يَنْتَزِعُهُ مِنْهُمْ مَعَ قَبْضِ العُلَمَاءِ بِعِلْمِهِمْ، فَيَبْقَى نَاسٌ جُهَّالٌ، يُسْتَفْتَوْنَ فَيُفْتُونَ بِرَأْيِهِمْ، فَيُضِلُّونَ وَيَضِلُّونَ»؛ رواه البخاري.

فهنيئا لكم تلك الحياة الممتعة، وهنيئا لمن رفعه الله فرعَى حقَّ ذلك التكريم ?يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ? [المجادلة: 11].

ثم أقول لكم أيها الإخوة:


فمنذُ ألف عام -بل تزيد-قامت فى مصر، البلد الوحيد الذى يمتدُّ فى فضاء القارَّتين العريقتين: آسيا وإفريقيا، وهما منشأ الحضارات الإنسانية، ومهبط كلِّ الرِّسالاتِ السماويَّة، قامت منارةٌ سامقةٌ، تبعث بأضوائها الهادية إلى أطراف العالَم كلِّه، وبخاصَّة شباب هاتين القارَّتين من أبناء الأمَّتين العربية والإسلاميَّة.

إنَّه الأزهر الشريف الذى بفضله أقفُ بينكُم اليوم، والذى أعدُّ هذا التكريم المقدور والمشكور، من إخوتنا فى إندونيسيا، وفى جاوة معقل العلم والعلماء، أعده تكريمًا للأزهر فى الحقيقة جامعًا وجامعة، بل هو تكريم للمسلمين متمثلًا فى خادم الأزهر الشريف وخادم العلم والعلماء والفقير إلى الله تعالى الذى يقف بين أيديكم الآن.

وليس الأزهر أيها السادة –كما تعلمون– مجرَّد معهد عريق أو جامعة عالميَّة، ربّما كانت هى الأقدم فى تاريخ الإنسانية التى تواصَلَ عطاؤها دون توقُّف، طوال هذه القُرون العديدة إلى اليوم، بل هو فى جوهرِه رسالةٌ، ومنهجٌ، وخطابٌ فكرى متمَيِّز.

فالأزهر الشريف يحملُ مسؤوليَّة الجانب العِلمى والدعوى من رسالة الإسلام، خاتمة الرسالات الإلهية إلى البشر كافَّة، رسالة السّلام العالمى والمساواة والعدالة والكرامة الإنسانيَّة، والتحرُّر من الآصار والقيود التى تُثقِل كاهلَ البَشر، وتُؤمن بكلِّ ما أرسَلَ اللهُ من رسولٍ، وما أنزَلَ الله من كتاب؛ {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285].

ويسلكُ الأزهرُ فى فهمِ هذه الرسالةِ وتعليمها والدعوة إليها - منهجَ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، كما تمثَّلَ فى فِكرِ الإمام أبى الحسن الأشعرى بمقالاته المنصفة، وسائر كُتُبِه الّتى شَقَّت طريقَ النّظر العقلى فى الأصلَين بعُمقٍ ووسطيّةٍ واعتدال، كما يتمثل هذا المنهج أيضا فى أصول الأئمَّةِ المتبوعين من فُقَهاءِ الأُمَّة، دون تعصُّبٍ أو إقصاء؛ فأبو حنيفة ومالكٌ والشافعى وأحمدُ، أعلامٌ تتردَّدُ فى رحاب الأزهر الشريف، وآراؤهم وأقوالهم تُدرسُ فى أروقته وتحت قبابه، فى سَماحةٍ فكريَّةٍ، ونظَر موضوعى جنبًا إلى جنبٍ، وبحثٍ مخلص النيَّة والهدَف عن الأقوى دليلًا، والأوفى بحاجاتِ الأمَّة فى ظُروفِها المتغيِّرة، ونوازلها المتجدِّدة.

وما أروع ما قال أمير الشعراء أحمد شوقى فى قصيدته المشهورة عن الأزهر الشريف، والتى قال فيها:
وَسَـــــما بِأَروِقَةِ الهُـــدى فَأَحَلَّهــا ** فَرعَ الثُرَيّا، وَهى فى أَصلِ الثَرى
وَمَشى إِلى الحَلَقاتِ، فَانفَجَرَت لَهُ ** حِلقًا كَهالاتِ السَّـــماءِ مُنَــوِّرا
حَتّى ظَنَنّـــا الشَّــــافِعِـى وَمـــالِكًـا ** وَأَبا حَنيفَةِ وَابنَ حَنبَلِ حُضَّـــرا
هذا وقد استَقامَ للأزهر على مَدَى القُرون منهجٌ يقوم أوَّلًا على بناء مَلَكَةٍ رَصِينة لدى أبنائه فى اللُّغةِ العربيَّة، وأسرارها العبقريَّة، ثم فى دِراسة الكتابِ والسُّنَّة، والعُلوم التى تخدمُهما، واستخلاص الأحكام الاعتقاديَّة والعِلميَّة منهما، أعني: علومَ أصولِ الدِّين وأصول الفقهِ، وعلومَ القُرآنِ، وعلومَ الحديثِ الشريف، وعلومَ الفقهِ المذهبى والمقارَن، مع إلمامٍ بما يعينُهم على فهم عصرِهم، وماضى ثقافتهم الإسلامية وأطوارها المختلفة، ومَنابع الثقافةِ الإنسانيَّةِ بوجهٍ عامٍّ، من الفلسفةِ الشرقيَّة والغربيَّة، والآدابِ القديمةِ والمعاصرةِ؛ ليُزوَّدوا منها بما يُعينُهم على فهم الماضى والحاضر والقُدرة على استشراف المستقبل، والإفتاء فى النَّوازل والوقائع المتجدِّدة على منهجٍ عِلمِى وأصولٍ مقرَّرة.

ولئن سألتُمونى عن السِّمة المميِّزة للمنهجِ الأزهرى فى الدّرس العلمى فلَأقولَنَّ: إنَّه منهجُ التحليل النَّصى العَمِيق الدَّقيق لعُيون التُّراث الإسلامى والعربي، ممَّا خلَّفته القُرون الأربعةَ عَشَر من كنوز ثقافتنا؛ حتى تتكوَّن إلى جانب المَلَكةِ اللُّغويَّة مَلَكةٌ شرعيَّةٌ تُعين الخرِّيجينَ النُّجَباءَ فى هذا المعهد على الوَفاءِ بحاجات الأمَّة؛ ممَّا أهَّلَه للمَرجِعيَّة الإسلاميَّة الموثَّقة فى العالَم الإسلامى كلِّه.

وقد قُدِّرَ لى -بحمد الله- أنْ أَدْلِفَ إلى رِحابِ هذا المعهد العَتِيدِ بعدَ تَنشِئَةٍ عربيَّةٍ رُوحيَّةٍ فى بيتِ عِلمٍ ودين، وعلى يدِ أَبٍ حَفِى أورَثَنِى الكثير الذى أسأل الله أن يجزيه عنى وعن العلم خير الجزاء، ثم نَعِمتُ بتوجيهِ أئمَّةٍ أعلامٍ من شُيوخِ الأزهر، جمَعُوا بين العِلم الشَّرعى على نهجِ الأئمَّة، والحكمة الإسلامية كما أبدعها الفيلسوف العربى يعقوب الكندي، والمسلكِ الرُّوحِى على طريق أئمة السلوك والتُّقَى: الجُنَيد البغدادى والحارث المحاسبى وأبى القاسم القُشيرى وأبى حامد الغزالي، وهو مَزِيجٌ غلَب على الأوساطِ الأزهرية منذُ الإمام المجدِّد ابن دَقِيقِ العيدِ وشيخِ الإسلامِ زكريا الأنصاريِّ، وصاحبِ «الفتح» ابنِ حَجَرٍ العسقلانيِّ، ثم الأئمَّة حسن العطار وعُليش ومحمد عبده والمراغى ومصطفى عبد الرازق وسليمان دنيا وغيرهم -رحمة الله عليهم أجمعين-.

وتلكم هى أصول الخطاب الأزهرى المتميِّز بالوسطيَّةِ فى العقيدة بين أتباع السَّلَف المحترزين من التّشبيه ومن مزالق التأويل، والخلَفِ المستحسِنين للنظَر والقائلين بالتأويل بحسَبِ قانون العربيَّة ولفظ الشَّرْعِ الشَّريف، جَرْيًا على ما رُوِى عن إمام دار الهجرة: «الاستواء معلومٌ، والكيف مجهول، والإيمانُ به واجبٌ، والسؤالُ عنه بدعةٌ»، وكذا التوسُّط بين إيثارِ التشدُّد أو التعصُّب لمذهب مُعَيَّنٍ فى فهم خطاب الشارع، وبين التَّسيُّب العلمي، أو التفلُّت من أصول الاستدلال، والترجيح بين آراء الفقهاء على غير هدى.

وما يلقاه الخطاب الأزهرى الوَسَطِى المعتدل الآنَ من قَبولٍ فى العالَم الإسلامى وخارجه، إنَّما يرجعُ إلى هذه الرُّوح الّتى تمزجُ الفكرَ العلمى بالروح الصُّوفي، وتتمسَّك بالحدِّ الأوسط الذى وصفت فى مجالى العقيدة والعمل، والّذى يعكسُ الرُّوح الإسلاميَّةَ الأصيلةَ التى تَسُودُ العالم الإسلامى -بحمد الله - بصَرْفِ النَّظَرِ عن بعض الأصوات الهامشيَّة هنا أو هناك.

وإنِّى لأشعُرُ بالسَّعادة البالغة أيُّها الإخوة لقُدومى فى هذه المناسبة الكريمة، إلى إخوتى فى الديار الجاوية، وقد خدمتُ العِلمَ الشريف والجيلَ الجديد، فى عديدٍ من الجامعات فى العالمين: العربى والإسلامي، وهاأنَذَا آتى إليكم ممثِّلًا لمؤسستكم الإسلامية العريقة «الأزهر الشريف»، وقد وُسِّدَتْ إلى قيادتُها وتوجيهُ دفَّتها فى ظُروفنا المتغيِّرة والمضطربة، وإنِّى لأَثِقُ بفضلِه سبحانَه وتوفيقِه، وبهِمَمِكم وإخلاصِكم وغَيْرتكم على دِينكم الحنيف، وتُراثكم العريق، وثقافتنا الإنسانية السَّمحة.

ثُمَّ إنِّى شاكر لحضراتكم جميعًا تفضلكم بمنحكم إيَّاى الدكتوراه الفخريَّة، والتى أعتقد أنها إعلانٌ منكم بتكريم الأُخُوَّة بين مصر الأزهر وجامعة مولانا مالك إبراهيم الإسلامية الحكومية.


الإمام الاكبر بعد منحه الدكتوراه بإندونيسيا (1)

الإمام الاكبر بعد منحه الدكتوراه بإندونيسيا (2)









مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة