قلم وورقة - أرشيفية
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لقد شهد التاريخ الإنسانى الحديث عدة محطات مهمة فى طريقه لبناء مجتمعاته المتحضرة، بدأها بثورة زراعية دامت لفترة طويلة، وعندما استطاع الإنسان إشباع جوعه وتلبية احتياجاته الأساسية بشكل كبير بدأ فى الانتقال بثورته الزراعية إلى أخرى صناعية- استطاع من خلالها إحداث تغييراً نوعياً فى بنيته التحتية التى امتدت لتشمل اليابس والماء بل والهواء أيضاّ.إن كنت من المعاصرين مثلى فأنت حتماً لم تشهد أياً من هاتين الثورتين (الزراعية والصناعية أقصد) ولكنك حتماً شهدت وعاصرت (بل ومازلت) الثورة الثالثة فى التاريخ الحديث – والتى ستهيمن على سياسات وأهداف العالم لعقود كثيرة قادمة – ألا وهى "ثورة العلم".
بدافع دراستى وعملى كباحث فى أحد الجامعات الأوروبية كان لى وافر الحظ فى أن أقف على مقربة من هذا المشهد الذى تتشكل وتنمو فيه ثورة العلم بشكل كبير، بل ومخيف أيضاً فى نفس الوقت، مخيف لأنى كلما تبينت مدى عمق وتأثير العلم فى حيوات الشعوب المتقدمة ومدى اعتمادهم عليه، كلما زاد قلقى على مستقبل الوطن الذى تربيت ونشأت فيه، الوطن الذى أعددت له كثير من الخطط فى مُخيلتي. فكنت كلما ذهبت إلى جامعة أو مركز من مراكز الأبحاث فى بلد أجنبى أو حتى قرأت خبراً عن اكتشاف أو اختراع يفتح أبواباً جديدة للمعرفة كلما – وبشكل غير إرادى – اعترتنى تلك الحنقة وسرعان ما يتبادر إلى ذهنى السؤال الذى أسأله بائساً لنفسى كل صباح "لماذا ؟". لماذا حالنا مثل هذا الحال؟ ماذا ينقصنا فى مصر ( ودعنى أقول فى بلادنا العربية أجمع ) كى نشارك فى ثورة العل ؟
الفقر، والجهل، والصراعات! هذه كانت إجابتى لنفسى على السؤال الذى كان يبادرنى كل صباح. كان الشخص الآخر بداخلى يحاول جاهداً فى كل مرة أن يقنعنى بأن الجوع وفراغ البطن سيؤدى بالطبع إلى فراغ العقل، حتى وإن انشغل العقل فهو لن يبتعد عن كونه انشغالاً بالتفكير فى كيفية تدبير الاحتياجات الأساسية لحياة الفرد لليوم أو للأسبوع القادم على أقصى تقدير. وعندما يفرغ العقل (فراغاً مجازياً) يصبح الجهل هو المسيطر وتصبع العصبيات (فكرية أو عرقية) هى المُحرك الغير مرئى لجميع المصائب. لكن سرعان ما كان يمر شريط التاريخ الحديث أمامي، وأتذكر كيف أن مجتمعات ودول كانت فى ظروف أصعب مما يتخيل أى أحد لكنهم أصبحوا فى طليعة ثورة العلم (كمثال: أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية،اليابان والصين وسنغافورة وكوريا الجنوبية من 50 سنة). هذه الأمثلة (وغيرها) خير دليل على ضعف حجة الشخص الثانى بداخلى والذى يحاول أن يجد الأعذار ليبرر به حالنا وموقفنا من ثورة العلم.
فى العام 1994 (أى قبل 21 عاماً من الآن) وفى كتابه "الطريق إلى جهنم"، قال الدكتور مصطفى محمود أن "الأمة العربية ستصبح بعد عشرين عاما قروداً على الشجر إن لم يكن العلم سلاحهم". وبنظرة عابرة على الوطن العربى – وبعد انقضاء المدة التى ذكرها مصطفى محمود – يمكنك وبسهولة أن ترى صدق هذه التكهن. فهاهُنا مازلنا نصدق أسطورة "الوحش المصرى"، تلك السيارة المزعومة التى تسير على الأرض وتطير فى الهواء وتغوص فى البحار، فتارة ما يخرج علينا الطفل العبقرى ذو الخمسة عشر ربيعا الذى اخترع مولداً كهربائياً يعمل بالهواء، وتارة أخرى ما نجد هذا الآخر الذى لم يتخرج من المرحلة الإعدادية وقام باختراع علاجاً يقضى نهائياً على السرطان. بالطبع لست ضد الاختراعات، ولكنى ضد الأمل الزائف وضد "انعدام الرؤية" التى أصبحت صفة شبه لصيقة بكل مسئولى التخطيط والتعليم فى بلادنا.
منذ حوالى الشهر وقفت أمام لجنة برنامج الدكتوراه لأعرض ما أنجزته خلال عامين بالإضافة إلى الخطة التى وضعتها مع مشرفى الأكاديمى للسنة الثالثة (والأخيرة) للدكتوراه. من ضمن الأوراق التى تُطلب فى تقييم كل عام تقرير مفصل عن الدراسات التى أتممتها وفى بعض الأحيان تقرير عن الميزانية التى تم رصدها لاتمام هذه الأبحاث. دون الخوض فى تفاصيل يكفى أن أقول أنى خلال عامين أنفقت "منفرداً" من ميزانية المعمل ما يزيد عن الـ70 ألف يورو (أكثرمن نصف مليون جنيه مصري)، وهو ليس بالرقم الكبير جداً مقارنة بأماكن أخرى مشابهة هنا. المفارقة الغريبة هى أنى فى ذات لحظة قرائتى لهذا المبلغ سرعان ما تذكرت مشهدا مشابها منذ 5 أعوام مضت فى مصر، عندما خرجت من البنك الأهلى المصرى أحمل مبلغ "2650" جنيها مصريا (بعد خصم الضرائب)، والذى كان من المفروض أن يكون ميزانيتى لأبحاث درجة الماجستير لمدة 3 سنوات (المبلغ يرتفع لـ4500 جنيه فى حالة الدكتوراه). غريبة وغير عادلة هذه المقارنة... أعرف.
اختلطت كل هذه الأفكار فى ذهنى أكثر وأنا أقرأ الخطاب الذى أرسلته إلى إدارة المنحة الدراسية التى أدرس من خلال الدعم المالى المقدم منها، والذى يطالبونى فيه أن أقرأ قوانين الاتحاد الأوروبى جيداً فى حالة أنى قررت الاستمرار هنا بعد حصولى على الدكتوراه. القوانين تنص على أن الاتحاد الأوروبى لا يسعى عن عمد لاستقطاب العقول المميزة من بلادها الأصلية فيم يسمى بمنع "هجرة الأدمغة" (Brain drain)، ولكنهم فى نفس الوقت يرحبوا بكل المواهب الشابة فى كل مجالات العلوم والتكنولوجيا ويسعدهم أن يقدموا لهم كل الدعم اللازم... أمر يدعوا للدهشة والتفكير..أعلم!.. أعلم أيضاً أن لدى بنوا جيلى الحلول والأفكار اللازمة لانشالنا من القاع، لكنها لن تغدو أكثر من مجرد أفكار.. والأسباب معلومة ولداعى للتنظير.
السؤال الذى يشغل تفكيرى منذ تلك اللحظة هو "عقلاً مهاجراً أم قرداً على الشجر"!..
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة