هل يمكن أن يحيط كاتب بالسنوات الخمس الصعبة الماضية فى كتاب من ثلاثمائة صفحة؟ لو طلبت من أحد المؤرخين أن يفعل ذلك، لاستفاض فى شرح الصعوبات والمعوقات أمام المشروع الذى تطلبه حتى يكون ملتزما بمنهج علمى وخطة تأليف منطقية، لكن الكاتب الصحفى الصديق عماد الغزالى فعلها من خلال كتابه الجميل «بخار البريستو - مقالات الشروق» والصادر مؤخرا عن دار الكتبخانة بالقاهرة.
عماد الغزالى اكتشف أنه مثلنا جميعا نحن الكتاب الصحفيين أصحاب الأعمدة اليومية نلهث فى صالة التحرير يوميا حول ما نسميه «طقس اليوم» أو القضية أو الحدث الأبرز خلال اليوم، وبقدر انشغالنا بمتابعته وتغطيته إخباريا، بقدر ما ننفعل بالكتابة فيه وعنه محاولين المضى قدما فى تحليله والربط بينه وبين الأحداث السابقة عليه حتى نكتشف طريقا واضحا نسير فيه.
وهكذا اكتشف عماد أنه كان ينفعل صادقا بكل حدث أو موقف أو ظاهرة مرت بنا خلال السنوات الخمس الماضية وله فيها آراء وتعليقات وتحليلات ثاقبة تستحق فعلا أن يضمها فى كتاب، لكنه عندما أراد أن يفعل كان عليه أن يختار عددا محدودا مما يزيد عن ألف وخمسمائة مقال، وبالفعل انتخب نحو مائة وثلاثين مقالا فقط ممثلين لأبرز المراحل التى مرت بنا، وصنفها فى أربعة فصول أساسية، «من رحيل مبارك إلى انتخاب مرسى، حكم مرسى وإخوانه، 30 يونيو وانعدال الموازين، الأمل».
فى مقدمته للكتاب، يلفت محمد المخزنجى نظرنا إلى صفات شخصية فى عماد الغزالى لكنها صفات حاكمة لمساره المهنى ولنظرته للأمور وانفعاله بالأحداث، فيقول المخزنجى عن كتابة وشخصية عماد الغزالى «الصدق والاستقامة ليستا قيمتين خاصتين بصاحبهما فقط، بل هما قيمتان عامتان تفيئان بظلالهما الحانية والرحيمة على محيطهما»، مهما كانت قسوة الهجير فى هذا المحيط.
وبالفعل تتضح هاتان القيمتان أمامنا ونحن نطالع النظرات الوطنية النقدية والحالمة، فى المقالات التى تضمها فصول الكتاب، فالأسلوب سهل والكلمات تتدفق بعذوبة وبلاغة وثقافة غير مدعاة، ولا يخفى عن القارئ منذ الوهلة الأولى أن الكاتب له علاقته الوثيقة بالإبداع كما أنه من تلك النوعية من الكتاب المعذبين بما يعتقدونه من مثل وأفكار ولا يجدونها متحققة بشكل كافٍ فى الواقع .
فى مقال بديع تحت عنوان من الشعب إلى النخبة: «ارحمونا يا جماعة»، يوضح الغزالى يأس الناس ممن يسمون بالنخبة وهم ليسوا بنخبة أبدا، هؤلاء الذين يدمنون الظهور فى الفضائيات والحديث فى الصحف بكلمات مكررة عن قضايا تافهة ورائجة لا تخص حياة الناس ولا اهتماماتهم الحقيقية بقدر ما تخص مصالح وسبوبات وعدة الشغل التى يستخدمها هؤلاء المحسوبون على النخبة فى الحصول على ما يريدون من مكاسب، يقول «حين تتسلل إلى الناس مشاعر اليأس وحين يتأكد لديهم أنهم «صفر» قبل الثورة وبعدها وأن الديمقراطية ليست سوى مرجيحة هواء يتلهى بها جرذان الفضائيات وبرامج التوك شو، سيتطلعون إلى المنقذ من الضلال، سيستعيدون أسوأ وأكذب صيغة حكم يمكن أن تنتهى إليها ثورة، صيغة المستبد العادل» ،وفى مقال ثان بعنوان «مصر فى قبضة الألتراس» يقول عماد: «انتقل الألتراسيون من الرياضة إلى السياسة، ناقلين إليها تعصبهم وتطرفهم المفرط، متناسين أن السياسة هى فن الممكن أو براعة الاختيار بين البدائل... الوسطية المصرية تتهاوى وبدلا من إحياء ذات الفرد فى مواجهة ثقافة القطيع، إذا بنا ننتكس ونعود قطعانا وقبائل أشد بؤسا».
وهكذا يسير بنا عماد الغزالى بين طرق السياسة والفكر والظواهر الاجتماعية ناقدا ومحللا وأحيانا ثائرا رغم أنه يصف نفسه بالإصلاحى لا الثورى، إلا أنه فى كل الأحوال لا يصدر لنا اليأس بحذلقة الفارغين، وإنما يرفع راية الأمل فى الغد وفى الشعب المصرى الصابر المجاهد الصلب.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة