الحرب بين أمريكا وروسيا لا تضع أوزارها أبدا ولا تنطفئ لهما نار قط، كل ما يفعلونه عبر السنين أن يبدلوا أشكال هذه الحرب فتختلف بين العلن والسرية، وتتنوع بين التحيزات والانتماءت، لكنها دائما وأبدا موجودة ومستمرة، وكنا نظن أنه بعد هذه السنين الطويلة والتطور الهائل فى وسائل التكنولوجيا، أن الثقافة قد نجت من هذه الحرب، لكن فاجأنا الروس بحركة غير متوقعة، فلم نتوقع أبدا أن تصل هذه الحرب التى يطلق عليها الباردة إلى حرق الكتب، فبعد 80 عاما على تأليفه، كان من المقدر لكتاب «ربيع أسود» للكاتب الأمريكى هنرى ميلر الذى ألفه فى سنة 1936، أن يحرق ليكون جزءا من هذه الحرب.
ففى عيد «الربيع» فى روسيا أحرق أهالى مدينة كراسنودار الروسية كتبا للكاتب الأمريكى هنرى ميلر، منها كتابه «ربيع أسود»، اعتاد الناس فيه حرق دمية من القش ليقولوا وداعاً للشتاء الروسى، ربما تكمن غرابة الموضوع أكثر فى وجود بيان صادر عن جمعية تسمى (العالم الروسى) يقول «إن حرق كتب ميلر جاء احتجاجا على انتشار قيم العالم الغربى المنحط الذى يقوم بالدعاية للعلاقات الجنسية الحرة ولفكر سدوم وعمورة والدعوة لانهيار القيم العائلية».
والمتأمل للبيان يعرف حرب القيم التى تدور الآن بين الثقافتين، وكأنه بيان صادر عن مجتمعات أخرى منعزلة تماما لا علاقة لها بالثقافات العالمية، حتى إننا لو حذفنا اسم جمعية «العالم الروسى» ووضعنا أى اسم آخر أسيوى أو أفريقى أو غير ذلك لم نجد اختلافا، فالبيان قائم على رفض الثقافة الغربية لأنها تدعو لانهيار القيم.
أما الشعار الذى تمت تحته هذه الكارثة فكان «شتاء نووى خير من ربيع أسود»، والمتأمل له يدرك أن هناك طرفا خفيا فى هذه المعركة، فليس من المنطق أن يكون الروس فجأة أدركوا أن كتب ميلر تحتوى هذه القيم التى يصفونها بـ«الهدامة» لأن كتابات ميلر معروفة وتملأ الأرض منذ قرابة الـ90 عاما، وروايته الأولى مدار السرطان تم منعها من قبل فى أمريكا وذهبت للقارئ بعد حكم محكمة، كما أن الأدب الروسى حتما يحتوى كتابا لديهم نزعة الكتابة الجسدية، وهم كانوا أحق بهذا الاعتراض من الأمريكى المتوفى منذ 36 عاما.
كل الذى نرجوه من الروس والأمريكان أن يجنبوا الثقافة حروبهم وطرقهم فى الضغط السياسى، وأمامهم المحافل السياسية ليمارسوا فيها سبلهم المختلفة فى التعبير عن الرفض أو القبول، وتظل الثقافة كى تضمد الجراح الناتجة عن هذه الحروب المشتعلة والباردة.