أمى المرأة التى صنعتنى هى أول من عرفت عندما توغل الإدراك إلى ذهنى فوجدت يديها تحملنى بحرص وتلامسنى برقة وتداعبنى بحنو، فهى التفسير الدقيق لمعانى الحب والعطاء بلا حدود وبلا انتظار مقابل، فعقلى يمتلئ بومضات عن علاقتى بها على مدار سنوات عمرى الثلاثين.
فقد وعيت عليها، ذكية مفعمة بالحيوية والنشاط، فتحصل يوميا على مدار عمرها الذى تجاوز الـ56 على قسط قليل من النوم لا يتجاوز الساعات الأربع، فتستيقظ فى الخامسة صباحا لتقضى العشرين ساعة المتبقية من اليوم بعضها فى أعمال المنزل الكثيرة والشاقة فى هذا التوقيت، قبل أن تحاوطنا التكنولوجيا التى يسرت إلى حد كبير الأعمال المنزلية، وما بين الاهتمام بشؤوننا ونحن أربعة أولاد «أيمن- عماد- طارق- مصطفى» حملت على عاتقها تعليمنا فى مدارس لغات خاصة وهو ما كان يمثل تحديا ماديا بالنسبة لها، نظرا لظروفنا الاقتصادية الصعبة فى هذا التوقيت، فتستكمل باقى ساعات يومها فى معاونة أبى الحاج «محمد الخولى» فى العمل، فتقطع المسافة يوميا ما بين شبرا الخيمة، حيث كنا نسكن والشرابية، حيث محل الخردوات المملوك لأبى الذى يعمل عقادا قبل أن يستقر بنا الحال للسكن فى حى الشرابية المتاخم لحى شبرا، حيث كانت مدرستى الإعدادية سانت كاترين الخاصة للغات ومدرستى الثانوية العهد الجديد الخاصة للغات.
فى هذه المرحلة من عمرى لم أكن أرى أبى كثيرا، فقد كان ومازال حتى اليوم يعمل لساعات طويلة تتجاوز أحيانا الاثنتى عشرة ساعة حتى يستطيع فى هذا التوقيت الوفاء بتكاليف المعيشة ومصروفات المدارس فيظل لساعات طويلة منحنيا على ماكينات العراوى والأوڤر والأچور، ليصاب نتيجة ذلك بخشونة فى رقبته تسبب له آلاما شديدة حتى اليوم، ورغم ذلك لا يتوقف عن العمل فهو أيضا يكره جدا أن يحصل على إجازة ولو ليوم واحد، فقد اعتاد على العمل على مدار عمره الذى تجاوز الـ66 عاما.
وفى مراحل الدراسة المتعاقبة لا يمكن أن أنسى أول يوم لى فى المدرسة رغم أن سنى حينها لم يتجاوز الرابعة فيومها لم أكن أتوقف عن الابتسامة وسط بكاء لا يتوقف من رفقاء أول يوم مدرسة، خوفا من المكان الذى تركهم فيه أولياء أمورهم فقد جالستنى أمى قبلها لتشكل إدراكى حول المدرسة، وعدم وجود مبرر للخوف أو البكاء، لأن بعد ساعات معدودة ستأتى لتأخذنى إلى البيت.
كما أذكر حزمها فى مبادئ الصدق والأمانة فكان أكثر ما يغضبها الكذب وخيانة الأمانة، فلا يمكن أن أنسى اليوم الذى أعجبنى فيه القلم الصغير لزميلى فى العام الدراسى الأول فأخذته ووجدته أمى فى حملة التفتيش اليومى لحقيبتى وملابسى، فظلت تضربنى حتى اليوم التالى الذى أعدت فيه القلم لصاحبه لأعود إلى البيت، فأجد أمى وقد أتت لى بعدة أقلام شبيهة بقلم زميلى.
فقد كانت أمى تصرف كل ما تملك من مال علينا فتخبرنا دائما أن الكثير من الناس لا يعلمون أولادهم جيدا ويوفرون المال لبناء عقارات وإيداع المدخرات بالبنوك، لكن أنتم مدخراتى فقد بنيت بكم 4 عمارات، فأذكر أن باعت أمى خاتم الذهب الذى تملكته من حطام الدنيا لدفع مصروفات جامعتى التى أصرت أيضا أن تكون متميزة، حيث حصلت على ليسانس الحقوق الإنجليزى، كما تخرج أخى عماد الذى يكبرنى فى كلية الزراعة الدولية، وأخى الأكبر أيمن معيدا فى كلية التجارة الإنجليزى ويُعد الآن للدكتوراه فى ألمانيا، أما أخى مصطفى الذى يصغرنى فقد كان ضربة قاصمة لأبوى وإخوتى، أما أنا فقد شكل لى نقلة حياتية أدخلتنى معتركات السياسة حيث توفى، رحمه الله، عام 2001 وهو على مشارف الثالثة عشرة من العمر تحت عجلات إحدى سيارات الصحافة لتظل قضية مقتل أخى فى أروقة المحاكم منذ 2001 حتى اليوم.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة