هل قتل «ريجينى» مصر؟.. من حقنا أن نغضب لأن إيطاليا حولت ملف قضية مقتل الباحث جوليو ريجينى إلى أزمة دبلوماسية وسياسية مع القاهرة، حينما قررت استدعاء سفيرها لدى مصر للتشاور، ووقف التعاون مع فريق التحقيق القضائى الأمنى المصرى الذى زار روما لإطلاعهم على ما لدى القاهرة من معلومات بشأن مقتل «ريجينى»، فالغضب فى هذه الحالة أمر شرعى، لكن يجب ألا ينسينا مجموعة من الحقائق المرتبطة بتعاملنا الرسمى مع القضية منذ ظهورها حتى الآن، لأن هذه الحقائق إذا ما درسناها بشكل جدى لتداركنا الوقوع فى مثل هذه الأزمات مستقبلًا.
من واقع متابعة التعامل مع ملف «ريجينى» أستطيع الجزم بأننا نحن من ساعدنا على لف الحبل حول رقابنا، تمامًا كما فعلنا فى حادث سقوط الطائرة الروسية فى سيناء، ففى الحالتين افتقدنا الحس السياسى فى التعامل مع الغير، والغير هنا أقصد به فى الحالتين إيطاليا وروسيا.. تعاملنا مع البلدين على أنهما حلفاء لنا وأصدقاء، وما سنقوله لهم سيرضون به، وأنهم لم يصل بهم الشطط إلى حد أن يفقدوا دولة كبيرة وصديقة ومحورية مثل مصر، فكانت النتيجة أننا تعاملنا بمنطقنا القديم الذى لا يعطى أحدًا إجابة عن الأسئلة المشروعة المطروحة على هامش كل أزمة، وقدمنا للآخرين ما نريد أن نقوله نحن فقط، لا ما تتطلبه الشفافية فى التعامل مع الأصدقاء، على الأقل فى مثل هذه الحالات، فوصلنا إلى ما نحن عليه الآن، فقدنا مصدر دخل مهمًا بقرار روسيا حظر سفر السياح الروس إلى مصر، ووصلنا إلى حافة الصدام مع إيطاليا.
فى الحالتين افتقدنا الخبرة فى التعامل، فوصلنا إلى طريق مسدود، للأسف عبوره سيكلفنا الكثير ماديًا وسياسيًا، ويسىء لصورتنا فى الخارج بشكل لم يكن نتوقعه أبدًا، فالضربة تأتينا هذه المرة من الأصدقاء وليس من الأعداء، لذلك فإن وقعها علينا أصعب داخليًا وخارجيًا.
فى أزمة «ريجينى» لم نحترم عقول الشركاء الإيطاليين، وحاولنا أن نصدر لهم روايات متضاربة عن مقتل الباحث الإيطالى، وحاولت داخليتنا أن تسحب معها الإيطاليين إلى طريقها هى، فكانت النتيجة أن ظهرنا عاريا تمامًا، وقيدنا أيدينا بقيود لا طاقة لنا بها.
لا أجادل فى فرضية المسؤول عن مقتل «ريجينى»، لأن الحقيقة لاتزال غائبة، ولا أريد أن أستبق الأحداث وأتهم طرفًا بعينه، سواء داخل مصر أو خارجها، فقد يكون الحادث برمته تصفية حسابات مخابراتية تمت على أرض مصر، وللأسف دفعنا نحن الفاتورة، هذا أمر وارد، لذلك فلا داعى للتسرع، لكننى أجادل فى أمر آخر، وهو لماذا ندفع الفاتورة دومًا؟، وهل بعد كل ما مرت به مصر من أزمات ليست لدينا القدرة على التعامل بحرفية مع قضية مثل مقتل «ريجينى»؟.. هذا هو ما يشغل بالى وتفكيرى منذ الكشف عن جثة الشاب الإيطالى، ومن قبلها حادث الطائرة الروسية.
فى واقعة «ريجينى» استسلمنا لروايات خيالية، لدرجة أننا كدنا نصدقها، وتركنا الآخرين يلهثون وراء شائعات أو خطابات مغرضة هدفها إلقاء التهمة على شخصيات أو مؤسسات بعينها.. ركزنا فيما ينقله الإعلام الإيطالى والرد عليه، وتركنا الإيطاليين يسبحون فى بحر من المعلومات والروايات المتناقضة ليختاروا منها ما يناسبهم.. هنا تكمن المشكلة، هنا وقعت مصر فى مجموعة من الأخطاء، بل خطايا كلفتنا الكثير.
نعم هى خطايا حينما تعاملت مصر مع القضية باعتبارها حادث قتل عاديًا، مثل آلاف قضايا القتل التى تمتلئ بها المحاكم والنيابات المصرية، دون إدراك قيمة وأهمية مثل هذه القضية فى دولة أوروبية، مثل إيطاليا التى تعد ثانى أكبر شريك اقتصادى لمصر عالميًا والأولى أوروبيًا.. خطايا حينما تركت مصر القضية دون أن تعالجها إعلاميًا بشكل احترافى، فكانت النتيجة أن الصحف الغربية أصبحت المصدر الأول للرأى العام الإيطالى بل والمصرى أيضًا، ولم نجد مسؤولًا بوزارة الداخلية يقول لنا حقيقة ما يحدث، ولم نرَ تحركًا جماعيًا من جانب الحكومة لتشكيل خلية أزمة لمعالجة أى تطور سلبى ضدنا، خاصة بعدما بدأت التصريحات الإيطالية ضدنا تتوالى، لكن الجميع لدينا التزم الصمت إلا من رحم ربى، ومن خرج ليتحدث قال كلامًا سياسيًا لا يعطى معلومة.
فى النهاية وقعنا ضحية لأخطائنا التى يجب أن نتعلم منها.. نعم من حقنا أن نغضب من الإيطاليين وأن نلومهم أيضًا، لكن قبل كل ذلك علينا مراجعة أنفسنا وتصرفاتنا وردود أفعالنا التى جلبت لنا الأزمات، واحدة تلو الأخرى.
حادث «ريجينى» لن يكون سببًا فى قطيعة سياسية بين مصر وإيطاليا، لكن بالتأكيد ستكون تكلفته علينا أكبر مما نتخيل.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة