ليست الأزمة فى أن مصر تتدهور، لكن الأزمة فى أننا مازلنا ساكنين فى مربع العدم، لا نبادر من أجل تقدمها ولا حتى نعمل من أجل أن تظل فى مكانها، ننخر فى عظامها كالسوس، نبدد إمكانياتها كأبناء حرام، نفسد فيها دون رحمة، ونخرب فيها دون أدنى شعور بالذنب، نتدهور، نتراجع، نتدنى، نتقهقر، نترك غيرنا يتحكم فى مصائرنا، يركبون على ظهورنا مستولين على حقوقنا التاريخية وتطلعاتنا المستقبلية، يعايروننا بفقرنا وضعف قوتنا، فيضعفون من عزيمتنا ويجرحون بكارة الأمل فى الغد.
مع كل هذا، لابد أن تتذكر أن مصر شهدت عبر تاريخها الموصول بتاريخ الأرض والسماء عشرات المحن المماثلة وعشرات الأزمات القاصمة، ثم نهضت وبقيت ووقفت، بعمل أهلها نهضت، وبعرق مخلصيها بقيت، وبإيمان محبيها وقفت، فاتنة كما عهدناها، عفية كما ينبغى أن تكون، ناصعة يافعة متطلعة.
لن أحدثك هنا عن أى شىء سياسى، أو عن أى أزمة تتحلق حولنا فتخنقنا وتضرب للربية ألف قناة فى وجداننا، سأحدثك هنا عن مصر القوية والرائدة رغما عن تصاغر المتصاغرين، فقد قادنى بحثى فى أزمة تيران وصنافير للتفتيش فى دفائرى القديمة، فى الكتب والمراجع والأوراق والطوابع البريدية، وفى هذه الأخيرة، وجدت مفاجأة جميلة، وبرغم أنها لا تتعلق بهذه القضية بشكل مباشر، لكنها تثبت أن تلك النظرية التى تقول إن مصر هى الرائدة فى كل شىء، وأن أى ادعاء يخالف هذه الحقيقة هو قصور فى التفكير وقصور فى البحث، فقد كشفت لى مجموعة الطوابع البريدية النادرة التى أقتنيها والتى تسرد تاريخ مصر منذ القرن التاسع عشر وحتى الآن عن أن مصر احتضنت أول معرض للفنون التشكيلية فى الشرق الأوسط منذ ما يقرب من سبعين عاما، وأنها أقامت هذا المعرض فى عام 1947 تحت اسم «المعرض الدولى للفنون الجميلة الحديثة» وأنها أصدرت تخليدا لهذه المناسبة أربعة طوابع بريدية تحمل رسومات لرأس نفرتيتى وقناع توت عنخ آمون وأحد المعابد الفرعونية، بالإضافة إلى مجموعة نحتية لفرعون مصرى، وكأن مصر الواعية «وقتها» أرادت أن تقول إنها صاحبة الريادة الفنية فى العالم، بشهادة تلك الأعمال الفنية الراقية التى تزين التاريخ البشرى بأكلمه ولا تزين تاريخ مصر فحسب.
أريد هنا أن أذكرك بأن كاتب هذه السطور كان قد اقترح منذ أشهر فكرة إنشاء معرض للفنون الجميلة تحت عنوان «معرض القاهرة الدولى الأول للفنون» وهى الفكرة التى أعلنت وزارة الثقافة عن تبنيها مؤخرا، وفى هذا الاقتراح تساءلت كيف تأخرت مصر عن إقامة مثل هذه المعارض المنتشرة فى العالم أجمع؟ لكن يشاء الله أن يقودنى بحثى إلى يقين جديد، هو أن مصر لم تتأخر عن شىء لكننا نحن الذين تأخرنا عن مصر، وفى الحقيقة فقد فرحت بهذا الاكتشاف برغم أنه ينتقص من الاقتراح الذى قدمته وظننت أنه الأول من نوعه، لكنى فى الحقيقة لا أرى شرفا فى أن نطمس تاريخنا ونزيفه من أجل أغراض شخصية، فيكمن المجد الحقيقى فى أن نحافظ على تاريخنا وشرفنا وحقوقنا لنكمل ما بناه الجدود، لا أن ننتقص منه.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة