فى بلد لا يؤمن بالتخصصات إلا فى الأمثال الشعبية فقط، طبيعى أن يصل بنا الحال إلى ما نحن عليه، طبيعى أن نجد ملايين المحللين العسكريين وملايين الخبراء الاستراتيجيين، فنظرة سريعة سواء على مواقع التواصل الاجتماعى أو المواقع الإخبارية على شبكة الإنترنت أو حتى نظرة عابرة على شاشات القنوات الفضائية المصرية، التى أصبحت فى مجملها لا تختلف كثيرا عن تلك المواقع على شبكة الإنترنت، ستجد الجميع يتحدث فى كل شىء وأى شىء بكل ثقة ويقين أنه على صواب ولا فارق بين أن تتحدث عن الحوادث المرورية والعلاقات الدولية أو التجربة النووية والحدود البحرية، الكل خبراء والكل على حق وفقا لما توصل إليه كل منهم من خفايا وأسرار.
لما نتعجب الآن مما يجرى على صفحات مواقع التواصل أو حتى على شاشات التليفزيون؟! إذا كان الناس يتابعون على مدى الخمس سنوات الماضية حالة من الهذيان الجماعى على مدار الساعة فى كل شىء وأى شىء؟! لماذا نتعجب عندما يتحول المواطن العادى البسيط إلى خبير فى كل شىء؟! لقد تعلم مما يشاهده على مدى خمس سنوات، فالمذيع أصبح مفكرا ومحللا وقاضيا والفنان تحول إلى سياسى ومنظر والصحفى نصب نفسه خبيرا معتمدا والرياضى الذى كان يبث فى الناس الروح الرياضية أصبح رمزا للتعصب.
ما العجيب فى أن نجد ملايين الخبراء والمحللين؟! لقد تعلم الناس أن المسألة سهلة فقط تحتاج إلى ثقة مبالغ فيها تصل إلى حد التعالى والغرور مع بعض الصراخ أحيانا وعدد من الكلمات المنمقة أو المصطلحات المقعرة فى أحيان أخرى والاستناد من آن لآخر إلى عدد من المصادر الغربية كنوع من أنواع الاستعراض بتنوع المعلومات وكان الله بالسر عليم.
فى زمن المسخ تجد عديم الموهبة فى مصاف النجوم ومحدود الثقافة ضمن النخب المجتمعية ومدعى العلم ببواطن الأمور فى مقدمة الصفوف، كيف تكون الصورة بهذا القبح وننتظر أن نرى مشهدا مستنيرا؟!
ربما آن الأوان أن ننتبه جميعا فقد تحول المجتمع المصرى فى معظمه إلى أناس يحكمون على الأمور وفقا للهوى وليس وفقا للمنطق ولا الوقائع وأصبح من الطبيعى جدا أن تصحو كل يوم على حالة من الهستيريا الجماعية على شبكات التواصل التى تنتقل فى المساء إلى شاشات الفضائيات وكل يوم تتنوع الهستيريا حسب تنوع الأحداث..
وكما تحرك المشاعر جمهور الإنترنت أصبحت هى المحرك الرئيسى أيضا لمن يطلقون عليهم النخبة
ليتحول المشهد العام فى مصر إلى حالة من الصخب الذى بدا للبعض فى البداية وكأنه حراك مجتمعى وسياسى ليتضح أنه حالة من الهستيريا الجماعية التى ساهم فيها كل الأطراف بدون استثناء على مدى السنوات الخمس الماضية .
متى ننتبه لما وصلنا إليه؟! تعلمنا أن العاملين فى مهنة الإعلام يطلقون عليهم مصطلح «قادة رأى»، ولكن يبدو أن هذه المسألة أصبحت موضة قديمة فقد تحول الإعلام الآن إلى رد فعل لآراء وتوجهات الشارع ولم يعد يكترث كثيرا للبحث والتدقيق فيما يجرى ليقدم للناس حقائق ومعلومات حول الأحداث من حولهم لتتضح أمامهم الصورة ويستطيعون تكوين آراء متوازنة ومواقف لها أساس من المعلومات بدلا من أن ينجرف نحو توجهات هنا وآراء هناك. ونسى الكثيرون دورهم الحقيقى وسط سخونة الأحداث اليومية.
الأزمة ليست فقط فى الابتعاد عن الوظيفة الحقيقية للإعلام وهى أن نعلم الناس بما يجرى وأن نتعمق فى البحث لإيصال الصورة بكل دقة بغض النظر عن الآراء والانطباعات، ولكن الحال وصل بنا إلى حد إلهاء الناس فى أحيان كثيرة عن أحداث معلومات وتطورات غاية فى الأهمية لصالح أحداث أخرى لمجرد أنها الأعلى صوتا والأكثر متابعة على شبكة الإنترنت!
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة