رسالة على البريد الإلكترونى تحمل سؤالا مكونا من ثلاث كلمات «يا أستاذة من هو المثقف؟» جعلتنى أتوقف أمام بساطة السؤال، وأكتشف كم هى صعبة الإجابة عليه، فحقًا من يكون المثقف الذى نتحدث دائما عنه، ويمطرنا الإعلام مكتوبا ومسموعا ومرئيا بلصق الكلمة مع اسم بعض الأشخاص، فتمنحهم تميزًا، وتمنح كلماتهم ورأيهم فى أى موضوع أهمية؟ والحق أننا من فرط ما استخدمنا هذه الكلمة دون تدقيق أو فهم حقيقى لمعناها صارت كلمة مبتذلة ككلمات كثيرة فى حياتنا نفرغها من معناها، فلا يبقى منها إلا أسوأ ما فيها.
وربما أرسل لى السائل هذا السؤال بسبب خبر اجتماع الرئيس مع المثقفين كما تم الإعلان عنه فى حينه، وربما أيضا لاحظ كما لاحظ غيره أن هناك خناقة حول هذا اللقاء حتى بين من حضروه، فمنهم من هاجم، ومنهم من كتب، كما كان يكتب دائما كلما التقى بأى رئيس. وقد استوقفنى هذا التناحر وتلك الاتهامات والمقالات والتصريحات على اختلافها، فهى بالفعل كفيلة بأن تجعل عموم الناس تسأل من يكون المثقف؟ فهل هؤلاء الذين جلسوا متحولقين على مائدة مستديرة حول الرئيس هم المثقفون فى مصر أو حتى بعضهم؟ وهذا سؤال مشروع، بل صار فرض عين أن نجيب عنه.
ولن أعطى لنفسى حق تعريف المثقف، فأنا لا أملك أن أعطى نفسى حق إسباغ صفة أو منعها عن شخص، أى شخص، ولكن سأنقل لكم تعريف كلمة المثقف من على أفواه، وبأقلام من يُقال عنهم مثقفون، سواء كانوا من مصر المحروسة أو من غيرها.
الأستاذ الروائى يوسف القعيد، أحد أبرز من يقال عنهم من طليعة مثقفى هذا البلد، وهو وجه حاضر فى أى مجلس للمثقفين، بغض النظر عمن يجلس على رأس المائدة من قيادة، استوقفنى مقال له منشور بجريدة الأهرام بعد لقاء الرئيس يقول فيه: «المثقف الحقيقى يشعر بذاته أكثر مما يشعر بالآخرين، وربما وصل إحساسه لدرجة النرجسية»، وهو فى هذا التعريف يشكو من أن الفرصة لم تتح له لكى يتحدث فى مجلس الرئيس، لأن مثقفين آخرين لم يراعوا غيرهم فى توقيت الحديث، وهو للحق تعريف محدود حول المثقف، لأنه تعريف يُعد تهمة، والتهمة هنا تطال القعيد كما تطال غيره. وسأترك تعريف القعيد للمثقف وأنتقل لتعريف إدوارد سعيد عن المثقفين من كتابه المثقف والسلطة: «المثقف ليس داعية مسالمة، ولا داعية اتفاق فى الآراء، لكنه شخص يخاطر بكل كيانه باتخاذ موقفه الحساس، وهو رفض الصيغ السهلة، والأقوال الجاهزة، والاتفاق على كل ما يقوله أو يفعله أصحاب السلطة وذو الأفكار التقليدية». أما ابن المقفع فقد حدد دور المثقف فى إصلاح حال الحاكم والرعية معًا، وفى المقابل يقول الإيطالى أنطونيو غرامشى «إن جميع الناس هم مثقفون بمعنى من المعانى، ولكنهم لا يؤدون وظيفتهم فى المجتمع، بينما المثقفون الفاعلون نوعان، مثقف يحمل هموم جميع الطبقات وقضايا أمته وشعبه ويستمر فى العطاء جيلا بعد جيل، ومثقف آخر تقليدى يجلس فى برجه العاجى ويعتقد أنه فوق الجميع». ومن الغريب كما تلاحظون أن الأستاذ يوسف القعيد المثقف المصرى لم يأخذ من تعريف المثقف لدى غراشمى إلا نوعا واحدا، مثقف البرج العاجى.
ثم نأتى لعمنا أحمد فؤاد نجم الذى كتب كثيرًا فى وصف المثقفين العرب، وخاصة المصريين فقال فيهم: «يعيش المثقف على مقهى محفلط مزفلط كثير الكلام.. عديم الممارسة.. عدو الزحام.. بكام كلمة فاضية.. وكام اصطلاح... يفبرك حلول المشاكل قوام.. يعيش المثقف يعيش يعيش يعيش».. وكنت أتمنى لو أستطيع نقل بعض ما قاله نجيب سرور فى المثقفين، وبعضهم مازال يعيش بيننا، ولكن قد يتلقفنى «محامى غاوى شهرة» وقاعات محاكم قد تستقبلنى وسجن قد يرحب بى لو أنى نقلت عنه، ولذا سوؤثر السلامة ولن أنقل رأيه فى المثقفين الأحياء منهم والأموات.
وخلاصة الأمر فإنى أكتب هذا المقال ليس ابتغاء الدخول فى جدل كالذى حدث بعد اجتماع الرئيس مع من قالوا إنهم بعض المثقفين، والاختلاف حولهم أو حول من يمثلون، ومدى تأثيرهم فى المجتمع، ولا الجدل الذى دار حول أن أغلبهم كانت نفس الوجوه التى تجلس على كل طاولة الحاكم فى عصور مختلفة متقاربة، وتكتب نفس ما تكتب، وتقول نفس ما تقول، ولا هدفى أن أتعجب كيف غابت طلبات أساسية لمجتمع المثقفين، أهمها الحرية الفكرية فى أن تكون المطلب الرئيسى والوحيد لهم الآن، والآن أكثر من أى وقت مضى. كل ذلك ليس من أهدافى، ولكن هدفى الرئيسى والوحيد هو أن يحاول قارئ المقال أن يرى نفسه ومكانته بين بعض تعريفات كلمة مثقف، فيحدد بنفسه من يكون المثقف ليستنير بأفكاره ويتأثر بها، أما من هم دون ذلك فلنتركهم ينعمون فى برجهم العاجى وعلى طاولة الحكام، لأن كفانا أبراجا عاجية، أو أسمنتية يجلسون فيها، ويتحدثون باسمى واسمك وهم على أفضل تقدير واهمون، فاللهم لا تجعلنا منهم.