تشاجر مدرس مع زميل له على شىء تافه لا يستحق التشاجر، ترك أحدهما المدرسة، جلس الآخر مع زملائه يوم الخميس، كان غاضبا أشد الغضب، وأخذ يهدد ويتوعد زميله بالويل والثبور وعظائم الأمور، وقال فى ثورة غضبه: لولا أن غدا الجمعة «الراحة الأسبوعية» لفعلت بفلان كذا وكذا من الأفعال السيئة. جاء يوم الجمعة ففوجئ جميع زملائه بموته، ولعل هذا الغضب الجارف كان سببًا معجلًا بموته، كان الرجل قد نوى الشر فمات وهو على هذه النية السيئة، ولو نوى الخير والصفح والعفو لربما هدأت نفسه واستراح قلبه وعاش طويلا.
العفو يطيل العمر، ويحسن الخلق، ويريح النفوس، ويزيح العداوات، ويطفئ الخصومات، ويرقق القلوب، ويمد فى الأعمار، ويداوى جراحات النفس والحياة والروح. ومقابلة إساءة الآخرين بالإحسان إليهم تجعلك تشعر بالنصر الحقيقى على نفسك وخصمك. أما الانتقام فيزيد الخصومات، ويؤجج الخلافات، ويشعل الحرائق فى النفس والمجتمع، وفى حكم الإنجيل الشهيرة «لا تغرب الشمس على غيظكم»، «ولا تعطوا لإبليس مكانا».
وللأسف فإن من ينظر إلى المجتمعين المصرى والعربى يجد أن الشمس تغرب دوما على غيظنا وكمدنا وهمنا وخلافاتنا وصراعاتنا، بداية من الأسرة المصرية التى تعانى من التحلل، وعدم التواصل، ونوبات الخصام والخلاف والشجار، نهاية بالطلاق الذى وصل إلى أعلى معدلاته فى تاريخ مصر، فكل أسرة مصرية تريد أن تغرب الشمس وتشرق على غيظها وحنقها، لا على عفوها وصفحها. ومن العجيب أن تربى أستاذًا جامعيًا يضرب زوجته الجامعية ويحلف عليها بالطلاق بالثلاثة، أو تجد زوجًا من أسرة راقية يضرب زوجته ضربًا مبرحًا، وفى المقابل ترى زوجة فى منتهى العناد مع زوجها، وكلما أراد شيئًا مباحًا فعلت عكسه عنادًا واستكبارا، حتى المخطوبين ترى كل منهم يشتم الآخر وقد يهينه، وقد سمعت قصصًا كثيرة لخطيب يضرب خطيبته، وآخر يتبادل أفحش السباب معها، فأرى ذلك وأعجب، فإذا كان هذا فى زمن الحب والود والرومانسية فماذا سيفعل هؤلاء بعد الزواج وكثرة الأعباء المشتركة والمشاكل الحياتية العاصفة.
الناس الآن تتكاشف على بعضها، وتتطاول وتتفحش فيما بينها، ولو أنهم توقفوا لحظة عند كلمات الإمام العبقرى العظيم على بن أبى طالب مثل «لو تكاشفتم لتدابرتم»، أى لو أظهر كل إنسان عيوب الآخرين لوقع التدابر بينكم، وقولته «لو تكاشفتم ما تدافنتم»، أى لو كشف كل إنسان للآخر عيوبه وسلبياته ما دفن أحدكم الآخر عند موته. عندما يستر بعضنا على بعض، ويغفر بعضنا للآخر، سيذهب غيظنا وكمدنا وهمنا وصراعاتنا، وننام جميعًا مستريحى الضمير.
لقد تأملت بعمق تلك الحكمة التى اشتقت من وصايا المسيح، وهى «إن الله
برحمته يطرح خطايانا فى أعماق البحر ويكتب على الشاطئ ممنوع الصيد»، ولكن كلنا يصر على الصيد فى الماء العكر.
لا أحد يريد أن يعيش مع حكمة يوسف مع إخوته الذين آذوه فلم يكاشفهم بل «فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِى نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ»، وكذلك حكمة محمد «صلى الله عليه وسلم» وهو يسوس زوجاته «عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ»، ولا حكمة القرآن «فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ»، «فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ». ولا حكمة المسيح عليه السلام: «أحسنوا إلى مبغضيكم»، «إن جاء عدوك فأطعمه»، وإن عطش فاسقه، فإن فعلت ذلك تجمع جمر نار على رأسه لا أحد يسعد أن يجمع جمر نار على نفسه أو أخيه.
لا يريد أحد الآن أن يعيش مع حكمة المسيح التى حكاها عن الرب سبحانه: «لا تنتقموا لأنفسكم فإن لى النقمة». وهذا مطابق لما روى فى وصف النبى «ص»، «ما انتقم رسول الله» صلى الله عليه وسلم «لنفسه قط إلا أن تنتهك حدود الله»، فالذى يدور حول ذاته لا يعرف نفسه ولا ربه ولا الدنيا ولا الآخرة، وكذلك الذى ينتقم لنفسه أو يجعل من نفسه قضية يخاصم ويفجر ويتفحش من أجلها. وفى رسائل بولس حوارى المسيح «نفرح مع الفرحين، ونبكى مع الباكين، ونتغاضى عن سيئات المسيئين». وفى القرآن العظيم «فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ». والله لو التزم الناس حكامًا ومحكومين بمثل هذه القواعد ما وجد صراع على الكراسى أو الدنيا البتة، ولو التزمت الأسر بذلك ما وقع شقاق ولا خلاف ولا طلاق، فإن حدث فإنه يكون فى إطار «فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ».
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة