أستأذنك فى أن أكتب مقالًا اليوم لابنى الذى لم يبلغ العامين بعد، وأستأذنك فى أن أسرد له بعضًا من تاريخ دولته التى شقت ظلام البشرية لترسى معنى «الدولة» فى أذهان العالم، وتضع أول نموذج لحكم مركزى يعتمد على التخطيط والعمل واستشراف المستقبل والسعى إليه.
يا ولدى، هذه الدولة التى يسمونها مصر، ليست دولة بالمعنى الذى يتداوله الناس الآن، لكنها العلم فى شكل دولة، هى السمو فى شكل دولة، حتى أن الفيلسوف اليونانى العظيم أفلاطون حينما أراد أن يضع أسس «المدينة الفاضلة» فى القرن الرابع قبل الميلاد كرّس كل مجهوده فى وصف مصر وطبقاتها، فأصبحت «المدينة الفاضلة» كما قال البروفيسور مارتن برنال فى كتابه الشهير «أثينا السوداء» تصورًا أثينيًا ساذجًا لنظام الدولة فى مصر الفرعونية.
يا ولدى ما هى إلا سنوات قليلة وتدخل المدرسة وتتعلم بعضًا من نظريات عالم الرياضيات الأول «فيثاغورس»، المولود فى القرن السادس قبل الميلاد، فاعلم حينما تبدأ فى تلقى نظرياته التى وضعت أسس الهندسة الحديثة أن هذا العالم أتى إلى مصر ليتعلم على يد كهنة جامعة «أون»، وأنه رسب فى الاختبارات الأولية التى أجراها له أساتذة الجامعة، وحينما ذهب ليشتكى إلى الفرعون قال له إنه لا يملك حق التوسط لدى أساتذة «أون» لأنهم يعملون باستقلالية تامة، ولكى يطيب خاطره أدخله جامعة «منف».
يا ولدى، كانت مصر أول الدول فى العالم التى وضعت عشرات المؤلفات فى القانون، حيث وصل عدد هذه المجلدات فى عصر الفرعون «يوكوريس» فى القرن الثامن قبل الميلاد إلى ثمانية مجلدات أو ملفات، أما «إخناتون» فى القرن الرابع عشر قبل الميلاد فقد وضع أول قانون دولى للملكية، أما الملك «أحمس الثانى» فى القرن السادس قبل الميلاد فقد وضع قانونًا لـ«الذمة المالية»، مشترطًا على أى شخص أن يقدم فى نهاية كل عام كشفًا بما عمله وبما كسبه، ووسائل هذا الكسب.
يا ولدى لم يكن فراعنة مصر «كفرة» بل كانوا باحثين عن الحقيقة، تربوا فى جامعة «أون» التى كانت تعد أعرق جامعات العالم، وأكثرها صرامة، وتعلموا الطب والكيمياء والرياضة والهندسة، ولم يكونوا «متجبرين»، والدليل على هذا ما حدث قبل ألفى سنة قبل الميلاد، حيث سمح الملك «أمنمحات الأول» لأحد معارضيه «القائد سنوحى» بالعودة إلى مصر من منفاه بعد أن كان من معارضيه، وبقى فى مصر معززًا مكرمًا حتى مماته، وكان الفراعنة أول من يحترم القانون ويبجله، بدليل أن «رمسيس الثالث» حينما اكتشف خيانة زوجته له، وتدبيرها لقتله قبل ما يزيد على ثلاثة آلاف عام لم يقتص لنفسه، ولم يسمح لغريزة الانتقام أن تنال منه، وسلمها للقضاء ليأخذ القانون مجراه، بل والأكثر من هذا أن الفرعون «شباكا» خليفة الفرعون «بعنخى» يعد أول حاكم على وجه الأرض يلغى عقوبة الإعدام من قاموس الحياة تقديسًا منه للحياة الآدمية.
يا ولدى هذه «دولة مصر» فمهما رأيت من آثام، ومهما جرحت عينك الصغيرة عشوائية، فاعلم أنك فى دولة «عظيمة»، واعمل لتكون شبيهًا لعظمة دولتك.