ومن أهم ما يميز الخطاب الدينى المعتدل المنشود تركيزه على أُطر ومرجعيات موضوعية تقنع الطرف الآخر، فعملية التجديد لن تكون مقصورة على وجهة نظر طرف واحد، فعلى المجدد أو القائم بالخطاب أن يركز على التمسك ببعض المسائل المتفق عليها عند المتشدد، والتى يُعد التفريط فيها من أكبر أسباب المحن والمشاكل التى تسيطر على أصحاب الخطاب المتشدد، ومنها الاعتماد على الحديث الضعيف فى الأحكام والحلال والحرام، وذلك خارج الصحيحين، فيجب على راغبى تجديد الخطاب الدينى، ألا يضيّعوا وقتهم فى التعرض لأحاديث الصحيحين لأنه أمر لن يسمح به المتمسك بالنقل أبداً، فأغلب الفتاوى المتشددة مبنية على أحاديث ضعيفة خارج الصحيحين، ويمكن إسقاطها بسهولة كما سوف نوضح لأسباب، منها لضعفها إسناداً، ولتضعيف العلماء لها، ومخالفتها المنهج السمح للدين، والدعوة لعدم الاستشهاد بالضعيف فى الحلال والحرام من الأمور المتفق عليها عند السلف، فيقول الإمام الزركشى فى كتابه النكت على مقدمة ابن الصلاح (2/308).
"الضَّعِيف لَا يحْتَج بِهِ فِى العقائد وَالْأَحْكَام وَيجوز رِوَايَته وَالْعَمَل بِهِ فِى غير ذَلِك كالقصص وفضائل الْأَعْمَال وَالتَّرْغِيب والترهيب وَنقل ذَلِك عَن ابْن مهْدى وَأحمد بن حَنْبَل وروى الْبَيْهَقِى فِى الْمدْخل عَن عبد الرَّحْمَن ابْن مهْدى أَنه قَالَ إِذا روينَا عَن النَّبِى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِى الْحَلَال وَالْحرَام وَالْأَحْكَام شددنا فِى الْأَسَانِيد وانتقدنا فِى الرِّجَال وَإِذا روينَا فِى فَضَائِل الْأَعْمَال وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب سهلنا فِى الْأَسَانِيد وتسامحنا فِى الرِّجَال".
ولكى نزيل الحيرة نضيف أن الأخذ بالضعيف فى فضائل الأعمال ليس معناه قبول ما يعارض أو يُسئ للدين ومنه الأحاديث الحاثة على إشعال الحماسة والدعوة لإعلان الحرب بسبب كل مشكلة فردية من غير المسلمين تجاه المسلم ومنها ما يستنبطه البعض من قصة إجلاء يهود بنى قينقاع قيام التاجر اليهودى الذى كشف عورة امرأة مسلمة، فالحديث ضعيف لا يصح برغم شهرته، فقد أخرجه ابن هشام فى السيرة (2/48)، وإسناده مرسل معلّق.. فقد رواه عن النبى (صلى الله عليه وسلم ) وتفرد به أبو عون واسمه محمَّد بن عبد الله الثقفى الكوفى الأعور، فهو لم يُدرك الحادثة وقد مات سنة 116 هـ، فهو تابعى صغير، كما قال ابن حجر فى تهذيب التهذيب (9/322).
وكذلك قصة الجار اليهودى الذى كان يؤذى النبى (صلى الله عليه وسلم)، ويضع القاذورات والشوك فى طريقه، وعندما غاب فترة ذهب النبى ليسأل عليه، والحق أن هذه الزيادة لا أصل لها فى كتب السنة، ولم يذكرها أحد من أهل العلم، وإنما اشتهرت لدى المتأخرين من الوعاظ والزهاد من غير أصل ولا إسناد، ولا تدل على السماحة بأى وجه، بل فيها إساءة للنبى (صلى الله عليه وسلم)، لتحمله المزيد من الأذى.
ونضيف ليس كل ضعيف فى فضائل الأعمال يرفض، بل إذا لم يتعارض مع ما صح وثبت يُقبل مثل أحاديث فضائل الصالحين وأولياء الله، وأحاديث فضائل جيش مصر، فكثير من المتشددين يرون أنها ضعيفة وعلى فرض ذلك فهى بلا خلاف مما لم يشتد ضعفه وتندرج تحت أصل ثابت وهو التوصية بأهل مصر، فتقبل بلا أى شك.
وكذلك يجب تحديد معنى المعلوم من الدين بالضرورة فقد اتفق العلماء والسلف قديماً على أنه ما علمه الخاص والعام أى كل الناس تعرفه كالصلاة والزكاة وضرر الخمر والزنا، وليس كل من ينكر مسألة فرعية يكفر فيقول ابن قدامة فى المغنى (9/11) :
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة