هذا العطاء التطوعى يفضح اعتماد بعض الهيئات والمنظمات على التمويل الخارجى
بدعوة كريمة من أخى وصديقى الباحث والكاتب الكبير هانى رسلان، شاركت فى الدورة الثانية من منتدى دندرة الثقافى، بمحافظة قنا، والذى حفل بمعانٍ ودلالات سوسيولوجية وثقافية كثيرة تعلمت منها شخصيا، فالمنتدى حطم الحواجز التقليدية بين المثقفين والمبدعين والجمهور فى صعيد مصر، فلأول مرة فى حياتى أشاهد وأعايش حالة من المتابعة والمشاركة التفاعلية بين حوالى عشرة آلاف شخص، وبين مثقفين يناقشون قضايا فكرية معقدة، ويستمعون لأشعار راقية بالفصحى والعامية، ويستمتعون بمعارض الفن التشكيلى والحرف والصناعات اليدوية جنبا إلى جنب مع السيرة الهلالية، ومهرجان للخيول والفروسية «المرماح»، ومسابقة فى التحطيب.
جمع تفاعلى، ثرى بين الأصالة والمعاصرة فى الفن والثقافة، ومن دون إشكاليات أو صراعات مصطنعة.. آلاف البسطاء والمتعلمين والمثقفين اجتمعوا فى هذا المنتدى ليعيشوا معا كمصريين كما كنا قبل عدة عقود، بلا تعصب أو جمود، وبلا ضجيج أو صراخ فى الحوار أو النقاش، الكل مهتم.. ومستمتع بما قدم من أفكار وجلسات حوار وفنون قديمة أو حديثة، والاستمتاع بها، وما لفت نظرى أن المرأة كانت حاضرة وبقوة فى تقديم أعمال المنتدى أو المشاركة فيه أو متابعة أغلب الفعاليات، ففى الشعر تقدمت الصفوف شاعرات مبدعات من الصعيد ومن السودان والقاهرة، كما كانت معظم المنتجات فى معرض الحرف والفنون الشعبية من إنتاج سيدات وفتيات مارسن الفن بتلقائية وموهبة موروثة، فجاءت أعمالهن فى غاية الدقة والجمال.
فى منتدى دندرة الثقافى تجد أن الثقافة والفن الرفيع والشعر لها مكان وجمهور، شرط أن يغادر الفنانون والمثقفون القاهرة ويلتقوا بأهاليهم فى الصعيد والدلتا، وشرط أن تكون هناك بوتقة أو إطار يجمع وينظم، وأعتقد أن الأسرة الدندراوية التى أسسها السلطان الدندراوىّ نواة عام 1875، فى قرية دندرة من صعيد مصر، كانت هى البوتقة أو الإطار الذى حقق هذا الامتزاج والتفاعل النادر، ليس فقط فى أنشطة المنتدى وإنما فى جميع الأنشطة والفعاليات التنموية التى تقوم بها أفرع الأسرة الدندراوية فى جميع أنحاء مصر والعالم الإسلامى، حيث تنظم بشكل دورى ورش تدريب وتعليم لغات ومعارض، باختصار الأسرة الدندراوية من وجهة نظرى هى حركة اجتماعية إصلاحية تأسست للدفاع عن صحيح الإسلام ووجهه الحضارى الوسطى المتسامح، ثم ما لبثت أن تطورت إلى تقديم نموذج من التنمية البشرية التى تهتم ببناء الإنسان وتثقيفه والارتقاء بمهاراته وقدراته كى يشارك فى تنمية وطنه، ولعل ما يميزها أنها لم تحبس نفسها فى قرية دندرة وقبائل الإمارة التى تقيم هناك، بل امتدت إلى قبائل جنوب الصعيد «محافظات قنا وأسوان والبحر الأحمر»، ثم إلى العديد من محافظات الوجه البحرى. ثم تفرّعت إلى بعض الدول العربية والإسلامية فى آسيا وأفريقيا، وظنى أن الأسرة الدندراوية استفادت من تقاليد الطرق الصوفية، وإن لم تحسب نفسها حركة صوفية. وابتعدت الأسرة دائما عن الخوض فى السياسة أو العمل الحزبى، وأكد هذا المعنى الأمير الشاب هاشم الدندراوى المثقف الواعى، الذى تخرج فى الجامعة الأمريكية، ويجيد الفرنسية، والإنجليزية إلى جانب العربية، ويعمل بجدية للحفاظ على هوية الأسرة وتجديد أدوات عملها لتلائم العصر.
المنتدى والأسرة الدندراوية مفاجأة مدهشة بالنسبة لى، فهى تعتبر من وجهة نظرى إحدى الحركات الإسلامية الإصلاحية التى ظهرت فى الوطن العربى فى الربع الأخير من القرن التاسع عشر، لذلك أتمنى أن يقوم أحد الباحثين بدراسة نشأتها وتطورها كما درست الحركة السنوسية، والمهدية والوهابية. إن الأسرة الدندراوية تعمل فى صمت، وبعيدا عن الأضواء، وعن السياسة والإعلام، وتقدم نموذجا ملهما للتمويل الذاتى فى إطلاق مشروعات ومبادرات تنموية وثقافية وفنية، تقوم بالأساس على الجهد التطوعى والإخوة فى الإسلام والوطن، ونبل الهدف والإخلاص فى العمل، لذلك وجدت متطوعين فى كل مكان، بعضهم بعلمه، وعلاقاته.. وبعضهم بسيارته أو وقته.. وبعضهم استضاف وفودا أو زوار للمنتدى.. هذا العطاء التطوعى يفضح اعتماد بعض الهيئات والمنظمات على التمويل الخارجى ورفضها الرهان على التمويل الذاتى والعمل التطوعى، رغم أنه الطريق الوحيد لاستقلالها. أتمنى أن يتعلموا من الأسرة الدندراوية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة