قبل زيارتى إلى الصين كانت صورة الشعب الصينى بالنسبة لى لا تختلف كثيرا عن الصورة العامة لدى معظم العرب، باستثناء واحد فحسب، هو أنى أقدر الفن الصينى كثيرا وأرى أنه من الفنون الأساسية فى العالم وأنه صاحب بصمة أسلوبية فارقة فى الوجدان الفنى العالمى، وكذلك كنت أعرف أن النهضة الصينية المشهودة لم تغير معظم رجال الأعمال الصينيين ولم تجعلهم يتنكرون لفنهم الأصلى على العكس من بعض رجال الأعمال الآخرين، فقد شهد سوق الفن فى العالم فى السنوات الأخيرة صراعا كبيرا على اللوحات الأصلية الصينية لكبار فنانى الصين وذلك نظرا لنمو طبقة رجال الأعمال فى الصين وإقبالها بشكل كبير على اقتناء آيات الفن الصينى من صالات المزادات العالمية، حتى أصبحت التحف واللوحات الصينية من أغلى ما يباع فى العالم.
باستثناء هذا الأمر كان معظم ما أعرفه عن الشعب الصينى مستلهما من تلك الصورة السلبية التى يرسمها الأمريكيون عن أبناء التنين فى أفلامهم، وهى صورة كنت أعرف أنها ظالمة تماما، مثل تلك الصورة التى يرسمونها للعرب الآن، ومثل الصورة التى رسمها المستشرقون عن الحياة فى مصر فى القرن الثامن عشر والتاسع عشر، والتى رصد زيفها الفيلسوف العربى «إدوارد سعيد» بعمق كبير فى كتابيه «الاستشراق» و«الثقافة والإمبرالية» وقد كنت متلهفا لرؤية الصورة الحقيقية للشعب الصينى خلال هذه الزيارة التى كنت أعرف أنها ستغير الصورة الأولى تماما.
مقابلة مسؤول منطقة شمال أفريقيا وغرب آسيا بوزارة الخارجية الصينية كانت بالنسبة لى مقابلة لوجه «رسمى» لدولة تسهم بشكل كبير فى رسم السياسية العالمية، وحينما دخلنا إلى مبنى وزارة الخارجية صاح الجندى الواقف كشجرة الصنوبر على الباب الداخلى للبهو الرئيسى بجملة كلمات حادة وبصوت مرتفع، ترجمناها نحن الذين لا نعرف اللغة الصينية وكأنها «سلاااام سلااااح» فأضفى على الزيارة جوا من الرسمية كنا نغفله، ولما قابلنا السيد «دنج لى» مسؤول الملف العربى والأفريقى فى الخارجية رأيت فيه بساطة حقيقية وذكاء كبيرا، فقد افتتح الرجل حديثه معنا بدعابة معتذرا عن برودة الجو فى بكين مقارنة بالدول العربية ثم قال: «ويبدو أن هذا الجو السيئ من آثار قمة المناخ التى انعقدت فى باريس مؤخرا» ثم مضى الرجل ليتحدث عن التجربة الصينية من كل جوانبها مؤكدا فى كل وقت على حرص بلاده على الانفتاح على العالم وصيانة هويتها داخليا، فقد كسر هذا الرجل كل الجمود المفروض على الزيارة فى مقر وزارة الخارجية الفخم، الذى ضاعفه تلك الصيحة التى صاح بها الجندى، ثم مضى هذا المسؤول فى استعراض حداثة الصين ومواكبتها للظروف العالمية بشكل مبهر، فانتابنا ذلك الإحساس الذى انتاب الملك ريتشارد حينما قابل الملك العادل أخو صلاح الدين حينما قال «صلاح الدين يحسن اختيار سفرائه» وخرجنا جميعا بانطباع عام هو أن للصين وجه مختلف عما يصدر إلينا فى وسائل الإعلام الغربية، لكننا كنا فى لهفة حقيقية لمعرفة الوجه الثالث للصين من خلال التعامل المباشر مع الشعب الصينى.
ينشر هذا المقال ضمن سلسلة مقالات عن رحلتى إلى دولة الصين الشعبية، وقد خصصت يوم الجمعة من كل أسبوع لنشر حلقاتها.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة