لا أتفلسف ولا أتعالى ولا أستعرض حين أقول إن أزمة مصر الحقيقية، تكمن فى عدم وجود آلية للتنبؤ بالأحداث المستقبلية، والعمل على إجهاضها قبل وقوعها، ورغم أن كثيرا من الأزمات مكررة ومعادة، إلا أننا نتعامل معها كمن يكتشف العجلة لأول مرة، فيضيع الوقت وتتشتت الجهود وتتعقد الأمور، ونطبق أساليب قديمة فات زمنها وفسد مفعولها، ولا نجد فى النهاية إلا الحل الأمنى، فتتدخل الشرطة بعصاها الغليظة، ويزداد التوتر بينها وبين الناس، وتصبح الجانى والضحية فى آن واحد، وآخر نموذج هو اقتحام نقابة الصحفيين ليلة النسيم، مع أنه كان يمكن تدارك الأمر دون صخب وضجيج، بتنفيذ قرار النيابة بضبط وإحضار الزميلين، وعدم إغضاب جموع الصحفيين واقتحام نقابتهم.
بنفس العشوائية نتعامل مع أزمات كثيرة أبرزها الفتنة الطائفية، رغم أن لها خمسة نماذج محفوظة، الأسلمة واختطاف القاصرات وبناء الكنائس وأراضى الأديرة وفتاوى المتشددين والحب الحرام، وإذا وقعت إحداها لا قدر الله، فليس علينا إلا أن نخرج الكاتالوج من الدرج ونفكك شفرات التوتر.. ومع قدوم الشتاء نغرق فى شبر ميه، مع أن الأمطار لم تقطع وعدا بأنها لن تجيئ .. والحمد لله أن الدولة تنبهت مبكرا لنار الصيف، فقطعت دابر مشكلة انقطاع الكهرباء، ولأول مرة منذ سنوات طويلة سوف يستمتع الناس بطراوة التكييف ولهيب فواتير الكهرباء.. ولكن هل درسنا أم المشاكل، تجاوزات بعض أفراد الشرطة فى الماضى والحاضر، للتنبؤ بما يمكن أن يقع من حوادث فى المستقبل، فيتم إجهاضها أو سرعة إطفائها، قبل أن يصبح مستصغر الشرر حريقا كبيرا ؟
الكثير من أفلام الخيال العلمى تحدثت عن التنبؤ فى المستقبل، وأشهرها نيكست «Next» أو التالى، وتدور قصته حول رجل لديه القدرة على رؤية المستقبل، فلو تخيلت مثلا أنك تقود سيارتك، وأوشكت إشارة المرور لأن تتحول إلى الأحمر، لديك اختياران، إما أن تسرع فتعبر التقاطع بسرعة فى بداية تحول الإشارة إلى اللون الأحمر، أو أنك تخفف من سرعتك لتقف، وبالتالى ترى نتيجة كل قرار تتخذه وما ستقوم به لاحقا.. فلو علمت أن باجتيازك للإشارة ستصطدم بسيارة أخرى سيدعوك ذلك للتوقف، أو لو أنك رأيت أن تتوقف بصورة مفائجة سيؤدى ذلك لأن تصطدم السيارة التى خلفك بسيارتك من الخلف، كيف ستتصرف؟..هذه كانت فكرة الفيلم، رجل يرى جميع الاحتمالات فيتخذ أفضل قرار.
التنبؤ فن وعلم التوقع بالأحداث المستقبلية، هو فن لأن الخبرة والحدس والتقدير، لها دور فى التنبؤ وفى اختيار الأسلوب الملائم للمواجهة، وهو علم لأنه يستخدم الأساليب والطرق الموضوعية الرياضية والإحصائية، مما يرفع من درجة الدقة ويقلص من التحيز، ويستند إلى البيانات والخبرة الماضية، لهذا فإنه ليس عملا عشوائيا أو قراءة بالغيب، أو التخمينات غير الواقعية أو الأمانى التى لا تستند إلى الواقع وخبرته، وللوصول إلى الدقة، يحب أن يُبذل جهدا فائقا وكلفة عالية.
التنبؤ ليس قراءة الفنجان ولا «جلست والخوف فى عينيها تتأمل فنجانى المعدول»، ولكن أن تكون لدى غرف إدارة الأزمات فى الدولة، خرائط معلقة على الجدران، عليها دوائر حمراء لنقاط الأزمات المتوقعة، مشفوعة بدراسات تفصيلة حول مختلف الاحتمالات، ومقترحات بخطط علمية مدروسة للتعامل معها، فلا يضرب المسؤول لخمة ويرتبك و«يهنج»، ويقع صيدا ثمينا لجلادى الفضائيات.. ويكون جاهزا ومستعدا وواثقا من نفسه وقراراته وإجراءاته، ويصبح عونا للدولة وسندا لها وليس عبئا عليها ووبالا على نفسه.
أتحدث عن العلم وليس الفهلوة، عن الوعى وليس النفسنة، عن الجهد وليس الهمبكة، عن خبراء حقيقيين يدرسون ويحللون ويبدعون، وليس عن فرق خبراء تحاليل بير السلم، الذين يشدون الرحال كل ليلة للفضائيات .. أتحدث عن قرون استشعار وسرايا استطلاع متقدم، تستكشف مسرح العمليات، واعتقادى أن مصر زاخرة بمثل هذه الكفاءات.