الصيام والقرآن يحركان النفس تجاه الصلاح والتقوى
فى مقال الأسبوع الماضى بهذه الزاوية تحدثت عن ذلك السؤال الذى يدور بخلد الكثيرين، حين يسمع عن تصفيد الشياطين وتقييدها فى رمضان، ويرى فى الوقت نفسه معاصى وخطايا يقع فيها البعض رغم ذلك التصفيد والتقييد فيسأل: لماذا؟! لماذا نعصى الله فى رمضان؟ حاولت أن أجيب عن ذلك السؤال، ومررت سريعا على حقيقة أن النفس البشرية كانت - وما زالت - متهما رئيسيا إن لم تكن المتهم الوحيد فى كثير من الجرائم، التى اقترفت عبر مراحل التاريخ البشرى، وكان ذلك من خلال العرض القرآنى لتلك الجرائم التى برزت فيها النفس كمتهم بشكل واضح وصريح.
نأتى لسؤال آخر مهم يطرح نفسه بقوة فى هذه الأيام الفاضلة المباركة، حيث تكثر الطاعات أيضا، وتعلو همم الطائعين والطائعات لاقتراف شتى صنوف القربات، وطرق مختلف أبواب العبادات، لماذا؟! لماذا تسهل الطاعات، وتكثر فى رمضان؟! هل هى الرغبة فى المثوبة وابتغاء الأجر وبغية المضاعفة وحسب؟! إن كانت تلك هى الإجابة، فلماذا لا نجد نفس الإقبال فى مواسم أخرى تضاعف فيها أجور الأعمال أيضا؟! لماذا لا نجد إقبالا موازيا فى العشر الأول من ذى الحجة على سبيل المثال، رغم أنها بنص الحديث الصحيح أفضل أيام الدنيا، وما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام العشر؟! نحتاج بشدة لأن نجيب عن هذا السؤال، لعل تلك الإجابة التى تضع أيدينا على نقاط القوة ومحفزات التغيير فى رمضان؛ تعيننا على المداومة على ذلك بعد رمضان.
اعتقادى أن الإجابة تكمن فى ثلاث كلمات..الصيام.. القرآن.. صحبة الخير، ولنبدأ بتلك الأخيرة، الإنسان بطبعه مخلوق اجتماعى ودود لا يميل للعزلة كأصل، ومن ثم كان ذلك الاجتماعى الهائل على الطاعة فى رمضان من أهم عوامل تسهيلها على النفس كل من حوله صائم - أو جلهم - وكلما أدار البصر وجد تاليا للقرآن أو ذاكرا لله أو سمع قرآنا يُتلى من مذياع ما، المساجد ملأى والمصلون فى صلاة صبح رمضان أكثر من عددهم فى صلاة الجمعة فى بعض المساجد سائر الأيام، والتسابق إلى النوافل والتراويح أكثر من التسابق لفرائض فى غيره، أما عن الإنفاق والإطعام فحدث ولا حرج، من هنا يجد المرء حوله فى منظومة تغلب عليها الطاعات، فيتشجع لا محالة على أن يكون جزءا منها، وتلك فلسفة الكثير من العبادات التى اختار الله لها تلك الصفة.. الاجتماع.
أما الصيام والقرآن فيشكلان جنبا إلى جنب مؤثرا جبارا يحرك دفة النفس تجاه الصلاح والتقوى، الصيام يقلل الشهوات إلى أدنى درجاتها، وقد نصح النبى من لم يستطع الباءة فلم يتمكن من الزواج فعليه بالصوم، فهو جُنة وترس فى وجه الشهوات، والقرآن كتاب تغييرى كما بيّنا مرارا فى عشرات المقالات السابقة، لذلك تجد الربط الواضح بين مشهد الجود المضاعف لدى النبى صلى الله عليه وسلم، وبين مدارسته للقرآن مع جبريل عليه السلام فى رمضان، فتجده فى رمضان أجود ما يكون.. أجود من الريح المرسلة حين يأتيه جبريل فيدارسه القرآن كما بلفظ الحديث، لقد كان النبى كريما منفقا سائر الأيام، لكن اجتهاده هنا اجتهاد مختلف والفارق - بخلاف فضل الأيام - هو مدارسة القرآن جنبا إلى جنب ذلك الحائل عن الشهوات- الصيام.
واجتماع الصيام والقرآن على القلب فى رمضان ينشئ حالة عميقة أكيدة من التأثير التغييرى، يندر أن تجد متعرضا صادقا لها إلا ويتغير بها، حيث تعرض الآيات على القلب وهو فى حالة من تراجع لمنسوب الشهوات تؤهله للتأثر والتفاعل مع كلام الله، يعين على ذلك فى رمضان أن تترسخ قيمة المدارسة التى كانت السمة المميزة لعلاقة النبى صلى الله عليه وسلم بالقرآن فى رمضان، حين تترسخ تلك القيم، ويدرك المسلمون أن الأمر ليس فقط بكثرة طاعة موسمية لا ينبنى عليها تغيير وعمل، بل يتبعها انقطاع وهجر بعد انقضاء رمضان، يحدث التغيير الدائم للأفضل.
إنها إذن دعوة لتغيير النظرة النمطية لرمضان على أنه موسم طاعة عابر وينقضى، ولكن على المسلم الواعى أن يلمس كما قلت مواطن القوة والإعانة، ويضع يده عليها متمسكا بها لعلها تكون طريقه لأن يكون عامه كله رمضان.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة