نحتاج إلى مراجعة ما كتب عن جدوى قرارات تأميم الصحافة فى المرحلة الناصرية
تاريخ الصحافة المصرية لم يكتب حتى اليوم، فهناك قضايا بالغة الأهمية لم يتطرق لها مؤرخو وباحثو الصحافة، منها آليات التمويل والإدارة والتحكم فى صحافتنا منذ نشأتها فى كنف الدولة عام 1827م، ثم ظهور الصحافة الخاصة والحزبية.. لم تتطرق كتابات تاريخ الصحافة لمستويات المهنية وأوضاع الصحفيين والظروف التى كانت تحيط بهم، وكيف كانت تؤثر فى تغطيتهم للأخبار وما يكتبون من آراء، وهل كانت سلطة الاحتلال والقصر هى التى تضغط عليهم أم أن هناك سلطات أخرى منها سلطات العادات والتقاليد والنفوذ الفرنسى ونفوذ الجاليات والمعلنين والأحزاب.
توجد أسئلة كبرى فى تاريخ صحافتنا بلا إجابة، وهناك ما يبدو أنه حقائق، لكنها تحتاج إلى مراجعات، مثل أن الشوام هم الذين أسسوا الصحافة المصرية وقادوا التطوير فيها، وأن الصحف الحزبية كانت أقوى من الصحف غير الحزبية مثل الأهرام والمقطم، ويتفق المؤرخون على أن المقطم كانت تقف إلى جانب الإنجليز، بينما وقفت الأهرام دائما بجانب فرنسا، طبعا مقابل حصول الصحيفتين على دعم مالى وسياسى، لكن الخطوط العريضة لهذا الدعم غير معروفة، كما لم يكتب أحد تفاصيل تمويل القصر للصحافة، أو تمويل الأحزاب للصحف التى تصدرها، ثم من يمول تلك الأحزاب، هل ملاك الأراضى الزراعية أم الرأسماليون مثل طلعت حرب وعبود باشا.
نحتاج إلى مراجعة أكذوبة أن منع الإذاعات الخاصة التى ظهرت فى عشرينيات القرن الماضى كان خطوة للأمام أدت إلى ظهور الإذاعة المصرية عام 1934م، لكنها أرست معالم احتكار الدولة للبث الإذاعى، ثم احتكارها للبث التليفزيونى الذى بدأ عام 1960م.. وتحويل الإذاعة والتليفزيون إلى أكبر أداتين للدعاية للحكومة، أى حكومة، والتلاعب بعقول المواطنين وتزييف وعيهم على مدى القرن العشرين!!. تصور معى، عزيزى القارى، مسارا مغايرا كان يسمح بظهور الإذاعة المصرية وإلى جانبها إذاعات خاصة.. أو يظهر فيه تليفزيون الدولة «ماسبيرو» ومعه محطات خاصة.. لاشك أن هذا المسار كان سيقلل من الدعاية للحكومة، ويوفر قدرا أكبر من المهنية واحترام التنوع والتعدد، عوضا عن إعلام أو دعاية الصوت الواحد. طبعا التاريخ لا يعرف الأمنيات.. لكن الوضع الحالى للصحافة والإعلام يقود تقريبا إلى نفس المسار الذى عطل لأكثر من 70 عاما!! لكنه يحتاج مزيدا من الحرية والتنظيم والتنوع فى أنماط الملكية والإدارة.
صحافة فى المرحلة الناصرية، التى أدت إلى تراجع الصحافة المصرية كمهنة وصناعة، والأخطر أنها أسست وضعا شاذا مازلنا نعانى منه، ولا يوجد له مثيل فى العالم.. وهو أن لدينا صحافة مملوكة للدولة تعانى من مشكلات هائلة، ويبدو أنها ستواصل خسائرها وفشلها فى ظل تراجع وأفول عصر صحافة الورق، وصحافة دعم وتأييد الحكومة «على الفاضى والمليان»!!
نحتاج إلى بحوث فى تاريخ آليات السيطرة على العاملين فى الصحافة والإذاعة والتليفزيون، وأساليب اختيار الدولة لرؤساء التحرير بعد تأميم الصحافة وحتى اليوم، والأهم أساليب اختيار العاملين فى الصحافة والإعلام، ولماذا سيطرت الواسطة والقرابة على اختيارات المرشحين للالتحاق بالصحافة والإعلام منذ السبعينيات وحتى اليوم، وهل هناك مميزات مادية أو معنوية تفسر ذلك، وأخيرا ما سبب وجود فوارق طبقية، وثقافية ومهنية كبيرة بين الصحفيين والإعلاميين قبل وبعد الثورة وحتى اليوم..
وكيف يظهر الصحفى المليونير والصحفى الفقير، وما هى مؤهلات أو شروط ظهور كل منهما، التى لا ترتبط غالبا بالمستوى المهنى أو الثقافى؟ وبعبارة أخرى: كيف يصنع الصحفى المليونير والصحفى أو الإعلامى الفقير أو الذى يعيش مستورا؟ الأسئلة والمراجعات التى يتطلبها تاريخ الصحافة والإعلام كثيرة ومتشعبة، وشيقة وممتعة أيضا.. لكن للأسف لا يوجد حماس بين الباحثين الشباب لدراسة تاريخ الصحافة والإذاعة والتليفزيون، فمن النادر أن يسجل طالب ماجستير أو دكتوراه موضوعا لرسالته فى تاريخ الصحافة والإعلام، وأعتقد أن هروب الباحثين له مبررات كثيرة أهمها: صعوبة المجال، والحاجة إلى باحث مثقف قارئ للتاريخ ولمهنة الصحافة وعلوم الإعلام.
أتمنى أن يظهر باحثون بهذه المواصفات لينجزوا ما عجز أو فشل فيه جيلى وأجيال من أساتذة الصحافة والإعلام، الذين ركزوا على تاريخ سير كبار الصحفيين وأهملوا التاريخ العام للصحافة والإعلام وتوقفوا عند الستينيات، وكان كثير من بحوثهم تكرارا لما ساد وانتشر فى كتب التاريخ العام أو كتابات تاريخ الصحافة التى كتبت بروح وطنية حماسية ضد القصر والاحتلال، ولكنها لم تكن علمية أو دقيقة تماما، لأنها أهملت الكثير من القضايا والإشكاليات التى تحتاج لمراجعات نقدية جادة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة