كرم جبر

هل يعود زمن الصحافة الجميل؟

الأربعاء، 22 يونيو 2016 11:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

كان الصحفيون يتحاورون ويتعاركون وفى النهاية يدشنون ثقافة الاختلاف والاحترام


كانت المنافسة الصحفية فى الزمن الجميل تعنى الفروسية والشهامة، وليست المؤامرات والمكائد والضرب تحت الحزام، وأتذكر إحسان عبدالقدوس نموذجاً رائعاً، ورغم أن والدته فاطمة اليوسف كانت صاحبة المؤسسة العريقة التى تحمل اسمها، إلا أنها لم تجامله، وتعمدت أن تصنع منه كاتبا قويا خشنا، يستطيع أن يشق طريقه بين العمالقة، وأطلقت بينه وبين أحمد بهاء الدين سباقًا صحفياً شرساً، ومنعت نشر مقالاته الأدبية والشعرية فى «روز اليوسف» حتى لا يقال إنه «ابن الست»، وعندما أرسل مقالاً لم يوقعه باسمه، احتل صدر الصفحة الأدبية، كانت تريده فارسا عنيدا ومقاتلاً، وتحقق لها ما أرادت، وأصبح إحسان هو فارس الحب والحرية وأحد النبلاء العظام فى بلاط صاحبة الجلالة.
فى زمن الصحافة الجميل كان الاحترام السياسى، هو اللغة التى يكتب بها الصحفيون مقالاتهم، يتحاورون ويتعاركون، وفى النهاية يدشنون ثقافة الاختلاف و«الاحترام»، تلك الكلمة الرائعة التى اختفت من القاموس السياسى والصحفى، وتم استبدالها بـ«الإهانة» وقلة الأدب.. وأصبحت حرية الصحافة هى حرية الإهانة والتطاول والتخوين.

كان الرائعان موسى صبرى وصلاح حافظ يتشاجران بعنف وشراسة على صفحات «أخبار اليوم» و«روزاليوسف»، وفى نهاية اليوم تجمعهما كافتيريا واحدة يتناولان فيها معًا طعام العشاء.

دخل فارس الزمن الجميل إحسان عبدالقدوس السجن ثلاث مرات وتعرض للاغتيال أربع مرات، وذهب إلى غرف التحقيقات عشرات المرات، وفى كل مرة كان من يتسبب فى حبسه يعتذر له، ويبدى أقصى درجات الندم، سُجن لأول مرة وعمره 26 سنة، عندما كتب مقالاً بعنوان «هذا الرجل يجب أن يرحل»، قاصدًا المندوب السامى البريطانى اللورد كيلرن، ثم اعتذر له سجانه رئيس الوزراء فى ذلك الوقت محمود فهمى النقراشى، هو أيضًا بطل قضية الأسلحة الفاسدة سنة 1948 التى أدت إلى هزيمة الجيش المصرى فى حرب سنة 48، وكانت البداية الحقيقية لقيام ثورة يوليو 1952.

شهر العسل بين إحسان والثورة لم يدم طويلاً، وسنة 1954 كتب مقالاً بعنوان «الجمعية السرية التى تحكم مصر»، ولو قرأه نصف الصحفيين فى مصر لاعتزلوا الكتابة، من جرأة الكاتب وشجاعته ولغته الراقية البعيدة عن الشتائم والتطاول والإساءة، وسفالة الفتوات الذين يمسكون أقلامًا أطول من الشوم، واتهم إحسان بصراحة ووضوح أعضاء مجلس قيادة الثورة بأنهم يعملون كجمعية سرية، لأنهم أدمنوا العمل السرى، ويصدرون القرارات كما يصدرون المنشورات.

كان مصير إحسان هو السجن، لمدة 45 يومًا حبسًا انفراديا، وقال بصوت عال «ليس هناك بلد يستطيع أن يعيش فى نظام ثورى إلى الأبد»، وقال أيضًا: «العبيد هم الذين يخلقون الطغاة»، وهاجم محكمة الثورة والأحكام العرفية، وطالب بحرية الصحافة وانتخابات حرة نزيهة.. قال ذلك بشجاعة وجرأة، وآه.. لو استمع إليه عبدالناصر، لكانت مصر التى أصابتها النكسة عام 67 فى وضع أفضل وحال أحسن، ولكن الإحساس بالقوة المفرطة ضيع كل شىء. أين نحن من هذا الزمن الجميل، وصحافتنا يسيطر عليه فتوات القلم، ومحترفو هتك الأعراض، وانتهاك المبادئ والقيم المبادئ، والسب والقذف والشتائم واتهام الأبرياء دون سند أو دليل، صحافة تمد يدها للحكومة فى الصباح، وتشتمها فى الصباح والمساء، وفقدت رونقها وجاذبيتها وانصرف عنها القراء، وصار توزيع بعضها أقل من عدد محرريها، ولو غابت عن الساحة لا يشعر بها أحدا، كما أن وجودها منعدم التأثير، وصار بينها وبين الرأى العام أزمة عدم ثقة، بعد الأحداث الأخيرة بين النقابة ووزارة الداخلية، التى أظهرت الصحفيين فى صورة دعاة الفوضى وعدم احترام القانون.

الزمن لن يجود بإحسان ولا موسى صبرى وأحمد بهاء الدين وصلاح حافظ وفتحى غانم وعبدالرحمن الشرقاوى، وغيرهم من العمالقة الدين رفعوا سمعتها عالية فى السماء، نحن فى عصر التدنى والتدهور والانهيار، والأمل الوحيد أن ينهض جيلا جديدا، أرى ملامحه تتبلور فى الأفق، ليحمل فوق كتفيه العبء الثقيل، ويزيح من طريقه رموز وبقايا الزمن الردىء.





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة