حتى لو تمت الإطاحة بوزير التربية والتعليم، لن يتوقف التسريب، لأن الفساد يمخر كالسوس فى عظام العملية التعليمية برمتها، وإصلاحها يحتاج 20 مليار جنيه على الأقل، فى وقت تواجه فيه الدولة تلالا من المشاكل والأزمات، تنوء عن حملها الجبال، فارتضينا تعليم «على قد لحافك» فتعرى الجسد كله، ابتداء من المدارس التى تمنح شهادات لطلاب لا يعرفون القراءة والكتابة أحيانا، حتى الجامعات التى تقذف فى وجه المجتمع عشرات الآلاف من الخريجين العاطلين، فتجذبهم المقاهى والشيشة والترامادول، ويفقد الوطن أهم ثروة يمتلكها وهى الشباب.
الاعتقاد الخاطئ لدى الأسر المصرية، هو أن الثانوية العامة نهاية العالم، فمن يدخل كلية الطب يحلم بالعيادة والعربية والعزبة والعروسة، أما خريج الزراعة فمصيره أسود من قرن الخروب، وتظل الآمال والأحلام تنمو وتتضخم، وتولد حالة استنفار قصوى لدى كل أسرة لها طالب أو طالبة فى الثانوية العامة، بوابة العبور إلى الجنة أو النار، وتربط الحزام وتحرم نفسها من القوت ولقمة العيش لتوفير أجر المدرس الخصوصى، وتذهب الأمهات والآباء برفقة أبنائها أمام لجان الامتحانات، إذا كانت سهلة ارتفعت الزغاريد، وإذا كانت صعبة ساد الصراخ والدموع والنكد والهم.
ما بنى على خطأ، خطأ، والتعليم فى بلدنا فاسد منذ أكثر من 60 سنة، وعندما رفعت ثورة يوليو شعارات مجانية التعليم والماء والهواء، اهتمت بالكم وأهملت الكيف، وزحفت الأعداد الكبيرة فى سباق الشهادات، لأن الدولة كانت تتكفل بتعيين جميع الخريجين عن طريق القوى العاملة، وظهرت دولة الموظفين الذين لا يعملون ولا ينتجون، وتحول التعليم من عملية صناعة البشر، إلى رخصة لجلب الوظائف، وإذا فاتك الميرى إتمرغ فى ترابه، لأنك تحصل على مرتب مضمون حتى لو جلست فى بيتك.
الوظيفة المضمونة كانت سببا فى أسطورة الثانوية العامة، وبمرور الوقت فقدت الشهادات قيمتها، ولم تعد أكثر من ورقة لا قيمة لها، إلا التخصصات التى تحتاجها سوق العمل، ورغم ذلك لم تتغير المفاهيم إلا ببطء شديد، وأصبحنا نرى حاملى شهادات جامعية كان لها «شنة ورنة» يعملون فى محطات بنزين وتوصيل الطلبات للمنازل، علاوة على البيوت المكدسة بالجامعيين العاطلين، الذين يمدون أيديهم لأسرهم الغلابة للحصول على المصروف، وانقلبت الأية وأصبح هناك وظائف لا تجد من يشغلها، وعاطلون لا يجدون عملا.
وزاد الطين بلة عندما سيطر الإخوان والمتطرفون على المدارس والإدارات التعليمية، واستبدلوا النشيد الوطنى فى طابور الصباح بأناشيدهم وشعاراتهم، وأصبحت المدارس خصوصا فى القرى والأرياف أماكن لنشر التطرف، وامتد الاختراق إلى مساحات واسعة تحتاج جهودا خارقة لتطهيرها، وإعادة العملية التعليمية إلى مسارها الصحيح، وتعددت الحوادث الشاذة والغريبة فى المدارس، ووقفت الإدارات التعليمية عاجزة عن إصلاح الخلل، إما لأنه فوق طاقتها، أو لأنها مخترقة أساسا من الكوادر الإخوانية، وانعدمت معايير الرقابة والمتابعة، وظلت السلبيات تتطاير مثل كرات اللهب، وتركزت كلها فى الثانوية العامة، بوابة الجنة أو النار.
تسريب الامتحانات هو عرض لمرض، وأيا كان الفاعلون سواء من الإخوان الذين يتربصون بأى فرصة للفوضى، أو عصابات المتاجرة بالامتحانات، فنحن نواجه أمراضا خطيرة لا تنفع معها المسكنات، ولا خطط إصلاح التعليم الهزيلة، التى تتغير بتغيير الوزراء، وإنما بدخول الدولة بثقلها ونفوذها، ورسم استراتيجية قصيرة وطويلة الأمد، لإحداث إصلاحات جذرية فى نظام التعليم، لا يعبث فيها وزير ولا تغيرها حكومة، ونعتبرها مثل مشكلة الكهرباء، لأن «تنوير» العقول أكثر أهمية من «إنارة» البيوت والشوارع والمصانع.