قبل أيام استقبلنا جميعاً تصريحات رئيس الوزراء التركى بن على يلديريم، التى قال فيها نصاً «إسرائيل وسوريا وروسيا ومصر.. ينبغى ألا تكون لدينا عداوة دائمة مع تلك الدول المطلة على البحرين الأسود والمتوسط»، على أنها أحلام، دون أن ندرك حقيقة التغيير الذى يحدث فى أنقرة، فالرجل لم يكن يتحدث من فراغ، وإنما عن علم بحقيقة ما يجرى فى الكواليس الذى ظهرت بوادره الاثنين الماضى.
الاثنين الماضى أعادت تركيا مرة أخرى الاعتبار جزئياً لسياسة «صفر مشاكل» التى ابتدعها أحمد داود أوغلو رئيس وزراء تركيا السابق، ففى الصباح أعلنت كل من إسرائيل وتركيا رسميا تطبيع العلاقات بينهما بعد خلاف استمر ست سنوات، ونجم عن هجوم شنته وحدة إسرائيلية مسلحة على السفينة «مافى مرمرة»، خلال نقلها مساعدات إنسانية تركية فى محاولة لكسر الحصار المفروض على غزة، ما أدى إلى مقتل عشرة أتراك، وفى تعليق له على تطبيع العلاقات مرة أخرى قال رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتانياهو «أعتقد أنها خطوة مهمة أن نقوم بتطبيع علاقاتنا.. ستكون له انعكاسات كبرى على الاقتصاد الإسرائيلى».
وفى مساء الاثنين اعتذر الرئيس التركى رجب طيب أردوغان لنظيره الروسى فلاديمير بوتين عن قيام الطيران التركى بإسقاط مقاتلة روسية قرب الحدود السورية فى نوفمبر 2015، داعياً إلى «إصلاح العلاقات بين تركيا وروسيا»، ووفقاً لما قاله المتحدث باسم الكرملين ديمترى بيسكوف فإن «الرئيس التركى عبر عن تعاطفه وتعازيه الحارة لعائلة الطيار الروسى الذى قتل، كما قدم اعتذاره»، مضيفا أن أردوغان قال بأنه «سيبذل كل ما بوسعه لاصلاح العلاقات الودية تقليديا بين تركيا وروسيا».
إذن أنهت تركيا الخلاف والقطيعة مع اثنين من الدول الأربعة التى ذكرها يلديريم، ولم يتبق سوى مصر وسوريا، وكل المؤشرات تقول إن أنقرة تحاول تقريب وجاهات النظر مع القاهرة، على الأقل اقتصادياً كمرحلة أولى، خاصة أن تركيا لا تريد أن تترك الإخوان دون ظهير يحميهم، وهذا الموقف من جانب تركيا يواجهه رفض مصر، أعلنه مؤخراً وزير الخارجية سامح شكرى الذى أكد أن التصريحات التى صدرت مؤخرا من تركيا تجاه مصر بها إيجابية لكن بها إشارات لا تنم عن توجه لعلاقة إيجابية مع مصر، واصفاً فى الوقت ذاته العلاقة بين القاهرة وأنقرة بالمضطربة، ولا يمكن وصفها بالطبيعية والإيجابية خاصة فى ظل استمرار التوجهات التركية القائمة على نفى إرادة الشعب المصرى وصلاحيته فى رسم مستقبله، وهذه التوجهات بطبيعة الحال مرفوضة مصريا.
الموقف المصرى من تركيا واضح ولا يحتمل اللبس، وفى المقابل فإن أنقرة تحاول المناورة لتعيد العلاقة مرة أخرى مع مصر لكن مع الاحتفاظ بموقفها الرافض لما تسميه انقلاب 3 يونيو، وحاولت القيادة التركية خلال الأشهر الماضية اللجوء لدول عربية وعلى رأسها المملكة العربية السعودية لترتيب المصالحة مع مصر، لكن لم تتحرك المياه الراكدة فى ظل تمسك كل طرف بموقفه، وإن كنت أرى أن الحكومة التركية الجديدة ستحاول مجدداً، إما مباشرة مع القاهرة أو عبر وسطاء لطى صفحة الماضى وبدء صفحة جديدة، خاصة بعدما ثبت لها أن السياسة التى انتهجتها تركيا طيلة السنوات الثلاثة الماضية تجاه مصر تسببت فى خسائر كثيرة لتركيا، وهو ما تحاول الحكومة العمل على تداركه فى الوقت الحالى.
أمام بالنسبة لسوريا فالوضع أشد تعقيداً، فالحل ليس سهلاً كما أن عودة العلاقة بين البلدين ربما يكون مستبعداً فى ظل استمرار نظام الرئيس السورى بشار الأسد، وفى نفس الوقت استمرار المساعى التركية للقضاء على الأسد ونظامه بشتى الطرق، حتى وإن كان بالتحالف مع الشيطان، المقصود به هنا بالطبع الجماعات الإرهابية وعلى رأسها داعش وجبهة النصرة، فتركيا هدفها القضاء على الأسد، وسيظل هذا الهدف عائقاً أمام أى عودة طبيعية للعلاقات بين سوريا وتركيا.
المحصلة النهائية أننا أمام تغيير واضح فى الداخل التركى، ربما تزداد وتيرته فى ظل تراجع حظوظ أنقرة فى الحصول على عضوية الاتحاد الأوروبى، فضلاً عن تعرض أنقرة لأزمات اقتصادية جعلت الحكومة التركية تدرك أن الحل فى تبنى سياسة خارجية تقوم على الاحتواء وليس الصدام الذى كلف الأتراك كثيراً، وتسبب فى قطيعة بين أنقرة وشركائها الاستراتيجيين.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة