عندما تحولت قرية كمشيش إلى أيقونة عالمية للنضال
لا أحب الكتابة عن الراحلين، لكنى مع خبر رحيل المناضلة شاهندة مقلد، لابد وأن أتوقف إجلالا لأسترجع هذا التاريخ الباذخ من المقاومة والنضال والصلابة النفسية واليقين المعرفى، فى مواجهة القوة الباطشة على اختلاف مستوياتها، قوة الإقطاع المستغلة، وقوة البلطجة عندما يسمح المسؤولون لها بالتحكم فى الأمور، وقوة رأس المال عندما تدهس المبادئ والحقوق، وقوة اليد الحديدية التى ترى أن إرادتها ورغباتها أهم من إرادات المواطنين.
خبر رحيل المناضلة الكبيرة شاهندة مقلد، ليس مناسبة للعزاء أو للتباكى أو لاستعرض القدرة على الرثاء، ولكنه لحظة اكتمال لمسار نضالى ناصع ونادر، يستحق منا أن نراجع مساراتنا المتواضعة عليه، لنستخلص الدروس والمواقف التى تساعدنا أن نكمل مسيرتنا دون تنازلات أو تشويش أو خيبات يتعذر علاجها.
مواقف عديدة فى تاريخ شاهندة مقلد النضالى، تضىء لنا عتمات الطريق الذى نسير فيه، وتؤكد لنا أن المحن مهما كانت قسوتها، تمر، ولا يتبقى منها سوى قدرتنا على مواجهتها، فعندما اختارت الانحياز إلى نضال الفلاحين فى قرية كمشيش ضد أطماع وبطش الإقطاعيين، قتلوا زوجها صلاح حسين وتركوها فى ريعان شبابها لم تتجاوز السابعة والعشرين من العمر، وعلى يديها ابنتها الرضيعة بسمة، ولكنها المقاتلة الصلبة، لم تنكسر ولم تهادن، وارتقت فوق محنة فقدان الزوج، لتواصل النضال من أجل حقوق الفلاحين المظلومين، حتى باتت « كمشيش» علامة على النضال ليس فى مصر فقط، بل فى العالم أجمع.
لذلك، لم يكن مستغربا، أن تكون شاهندة مقلد على رأس وفد الشخصيات الثورية والنضالية المرافق للرئيس جمال عبد الناصر، عند استقباله المناضل الأممى تشى جيفارا، ولم يكن غريبا أيضا أن يعلن الفيلسوف والروائى العالمى جان بول سارتر انحيازه لنضال فلاحى كمشيش وشاهندة مقلد فى مواجهة بطش الإقطاع، والذى كان موقفه هذا أحد أسباب زيارته الشهيرة إلى مصر فى الستينيات من القرن الماضى.
لم تختلف مواقف شاهندة مقلد المبدئية والنضالية، على مر السنين، فعندما حدثت نكسة 1967، وتم فتح باب التطوع للمقاومة الشعبية لمواجهة العدوان الإسرائيلى بحرب استنزاف على كل المحاور، جمعت المحاربة الجسور 70 من أهالى كمشيش، وتطوعوا فى صفوف المقاومة الشعبية، وكذلك عندما أصدر محمد مرسى المعزول فرمان إعلانه الدستورى الباطش بالحقوق والحريات، خرجت المناضلة الصلبة، لتهتف أمام قصر الاتحادية بسقوط الإخوان الكاذبين، رغم ضعف صحتها وتجاوزها السبعين من العمر، وهناك تعرضت للاعتداء بالضرب والإهانة من شراذم الإخوانجية.
وما بين انخراطها فى صفوف المقاومة الشعبية لمواجهة إسرائيل وبين خروجها للتظاهر لرفض بطش الإخوان، ظلت شاهندة مقلد معارضة شرسة لسياسات مبارك التى تزاوج رأس المال بالسلطة وتمنح الإقطاعيين الجدد كل الصلاحيات والسلطات لنهب حقوق الفقراء وإغلاق المجال أمام ترقيهم اجتماعيا وسياسيا، وظلت تنادى بأننا نعيش حالة من السياسة يغيب فيها الوطن، محذرة من حالة تغييب الوطن لصالح شلة من المنتفعين، لابد وأن ينذر بخراب الدولة، سواء بسقوطها بهجمة خارجية أو بانفجار داخلى، وقد شهدنا السقوط المدوى لمؤسسات الدولة، نتيجة لتعرضنا للأمرين معا.
شاهندة مقلد.. لا نقول وداعا، ولكن نقول إننا بانتظارك من خلال انبعاث أفكارك من جديد، فانعمى باستراحة المحاربة.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة