غلبته شهوته ووقع فى المعاصى، وحزن عل ما آلت إليه أوزاره، فذهب إلى سفيان الثورى يسأله كيف سيحاسبنا الله؟ قال الثورى: محاسبة الكريم، فهتف الرجل: نجونا ورب الكعبة، الكريم لا يدقق فى الحساب، بل يغفر ويسامح. صدق الرجل البسيط، فالكريم يغفر الذنوب جميعاً إلا أن تجحده أو تشرك به، والكريم يدخل عبده الجنة بشق تمرة، والكريم لا يحاسب على الهمّ بالمعصية، ولكنه يجزى عبده خيراً على همه بالطاعة وإن لم يفعلها. والكريم لا يعاقب على نيتك للمعصية إن لم تفعلها، ويعطيك الأجر الكبير على نية الخير والطاعة. الكريم يقبل القليل من العمل، ويغفر الكثير من الزلل، الكريم يكتب حسنات من لم يبلغ الحلم، ولا يكتب سيئاته. رفعت امرأة طفلاً للنبى «صلى الله عليه وسلم» فى الحج قائلة له: «ألهذا حج» فأجابها: «نعم. . ولك أجر». الكريم سبحانه إذا قدر عفا، وإذا وعد أوفى، وإذا أعطى زاد على منتهى الرجاء، لا يبالى كم أعطى ولمن أعطى. الكريم يعطى بغير سبب، الكريم يستر العيوب ويغفر الذنوب ولا يعاتب، وعفوه أقرب إلى عباده من عقوبته. الكريم يعطى ويرزق من أطاعه ومن عصاه، ومن شكره ومن جحده، ويعطى العبد برغم إساءته الأدب مع ربه ومولاه، ولولا كرمه ما سقى الكافر من الدنيا شربة ماء.
لقد فهم الرجل كل هذه المعانى العظيمة من قوله سفيان الثورى، فاستبشر بقوله : «سيحاسبنا الكريم» لأن الذى سيتولى حسابه فى الآخرة هو الكريم سبحانه وتعالى، الذى أهدانا بكرمه شهر الكرم والجود شهر رمضان، وأكرم الله فيه عباده كرماً زائداً، فإذا كانت أول ليلة من رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين، ونادى مناد: «يا باغى الخير أقبل ويا باغى الشر أقصر».. خمس خصال ذكرها رسول الله، وهو يتحدث عن كرم الله لعباده فى أول شهر رمضان.
ولا يقتصر كرم الله بعباده فى شهر الكرم والجود على ذلك، بل إن لله كرما متجدداً فى كل ليلة يمتن به على عباده، فلله عتقاء فى كل ليلة من رمضان، وله سبحانه فى كل يوم كرم جديد لمن صام رمضان إيماناً واحتساباً، فقد وعده الله على لسان نبيه بـ«غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر». ويبلغ الكرم منتهاه ليلة القدر التى تساوى وتزيد ليلتها، وهى بضع ساعات فقط، فى الفضل على ألف شهر أى 83.3 سنة، ويباهى الله بهذه الليلة ملائكته.
أقبل رمضان شهر الكرم والجود، شهر القرآن والخيرات والبركات والطاعات والقربات وصلة الأرحام وطهارة الظاهر والباطن. جاء يذكرنا بيوم الفرقان يوم التقى الجمعان، وبفتح مكة والذى مثل نهاية الشرك فى الجزيرة العربية، وبحطين وبطلها العظيم صلاح الدين الذى يشتمه المغرضون اليوم لحاجة فى أنفسهم، وهل من حكام العرب من حرر القدس أو وحد العرب جميعاً مثله أو كان نموذجاً فذاً للحرب والسلام، والعفو والرحمة. يذكرنا بنصر أكتوبر المجيد فى العاشر من رمضان وهو أول نصر عربى وإسلامى حقيقى على إسرائيل. جاء يذكرنا بالصيام والقيام، ولم يأت لنتفنن فى الترف واللهو والعبث الذى أدمناه طوال العام.
لم يأت هذا الشهر لنأكل فيه وكأننا جوعى القرون الأولى. لم يأت رمضان ليظل الموظف المرتشى يفتح الدرج دون حياء، كيف نصوم ومئات الموظفين يزوغون من العمل، كيف نصوم عن الطعام والشراب والحلال لنشتم ونسب الدين و«نتخانق مع دبان وشنا» كما يقولون بحجة «أنا صائم وزهقان». كيف تؤجل كل الأعمال الحيوية فى رمضان، كيف يمر رمضان علينا ونحن لم نغير شيئاً فى سلبيات حياتنا، والحشاشون والمدخنون والمبرشمون كما هم، والمنافقون والأفاكون والكذابون كما هم، والشتامون والمتخاصمون والمتقاطعون وقاطعو أرحامهم كما هم.
شهر رمضان هو شهر التغيير والامتناع عن الحلال، أما الامتناع عن الحرام فينبغى على الجميع اجتنابه فى العام كله، وإن لم نتغير إلى الأحسن فسنستبدل بغيرنا «وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ» وعلامات الاستبدال بدأت منذ زمن، فكل الأمم تتقدم ونحن نتأخر، وكلها يتصالح ويتفاهم ويتوحد ونحن نتشرذم ونتفرق ونتصارع، وكلها يبنى ونحن نهدم، وكلها يصنع ويزرع ويحصد ونحن نتسول طعامنا وسلاحنا ودواءنا، اللهم اهد هذه الأمة واصلح ذات بينها، واهدها سبل السلام واصرفها عن الظلم والبغى والفساد والطغيان.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة