إن سمعته يقول الشعر، فستجده يلهث به كأنه يتنفسه، وستتخيل أن الزفير الخارج من بين شفتيه فى كل مقطع هو روح الشعر التى تشع منه، وتنتشر فى القاعة، فينعم الجميع بالشعر الذى تحول إلى نسيم، والصوت الذى ملأ المكان، والموسيقى التى تسربت إلى القلوب.
بهذه الكلمات تحدثت عن شاعر الوجدان المصرى، سيد حجاب، منذ سنوات؛ احتفالًا بتجربته الفنية المتجددة، واحتفاء بقامة شعرية مصرية أصيلة يندر أن نجد لها شبيهًا.. سيد حجاب، ذلك العود الناصع فى ذاكرتنا الجماعية، وعينا المرسوم على نغمات الموسيقى، حلمنا الكامن بأن نغدو ريشة فى الهواء، أو ريشة فى يد عمار الشريعى الذى كان يفكك الموسيقى كلما لحن لـ«عم سيد»، كما يفكك «عم سيد» اللغة كلما كتب الشعر.
هو صوتنا القادم من أعماق التاريخ، موقفنا الواضح وسط جماعات التزييف والتطبيل والتطبيخ والترقيع، يحفر مشروعه الشعرى الفياض بصبر ودقة، بينما ينهال عليه التافهون بما يستحقونه هم من سباب، هو ذاته إحدى بوصلاتنا الوطنية الشامخة، أما أشعاره فيكفيها أنها تجرى فينا مجرى الدم، ويكفيها أنها غدت متوغلة فى ملامحنا، فصارت عصية على التغييب.
منذ أسبوعين يمكث «عم سيد» فى باريس لإجراء بعض الفحوصات الطبية بعد شعوره بتوعك صحى، ولا نملك إلا أن نرفع أكف الضراعة لله بأن يتم عليه شفاءه، وأن يطمئننا عليه دومًا، ليعود إلينا كما عهدناه صريحًا كالنهر، تلقائيًا كالعرق، واضحًا كشجرة جميز عتيقة، تحت أفرعها نختبئ، وبظلالها نستجير، ومن ثمارها نطعم.
انظر إلى عذوبته كنهر رقراق، وهو يقول: «حبيبتى من ضفايرها طل القمر، وبين شفايفها ندى الورد بات، ضحكتها بتهز الشجر والحجر، وحنانها بيصحّى الحياة فى النبات»، لتعرف كيف تشكل الكلمة فى معنى الوطن، وكيف ترسمه فى أبهى الصور، وتضعه فى أرفع المنازل، تسمعه، تقرؤه، تحسه، تغنيه، تجد فى كل حالة حلاوة، وانسيابًا وتدفقًا وصدقًا، هو ذاته قصيدة ألفتها مصر، ونقحتها التجارب، ودونتها القلوب، وحفظها الضمير.
يقول التافهون عنه ما يقولون، فهو الذى قال «لازم أشك الأندال مهموز، وأدوس ع اللى افترى والعنطوظ.. أراجوز، وشجيع، والدنيا ميدان، فارس.. حارس.. واقف ددبان، وإذا بان للشر نيبان وزبان، باحمى الغلبانة والغلبان» لا يضره سيل، ولا تؤثر فيه رياح الهمج، ولا تؤرقه النوائب، ولا يشغله تطاول الأراذل، فقضاياه أكبر من هذا كله، والحوار الذى يقيمه مع العالم يرتقى إلى حكمة الفلاسفة فى سهولة الماء، يشغله الزمن وأحواله، وتستهلكه صناعة الجمال والرقى، تتكاثر على قلبه هموم الوطن، فيغسلها ببيت شعر، أو يعالجه برشفة من نور الإلهام، أو يصنع منها ضفيرة من غناء.
ألف سلامة يا عم سيد.