هل كان فيلمًا تركيًّا بالفعل على الطريقة الأردوغانية؟
خبرة التاريخ تقول بأن الجيش التركى فى نزوله إلى الشارع لم يفشل ولو مرة واحدة فى انقلابه، فتركيا دولة انقلابات بامتياز والتاريخ التركى الحديث ملىء وزاخر بالانقلابات العسكرية على السلطات الحاكمة، والجيش الذى أصبح منذ أتاتورك فوق السياسة والمتحكم فيها و«ترمومتر» العلاقات الداخلية والخارجية و«الحامى للعلمانية» بموجب الدستور أطاح بأربع حكومات سياسية فى نصف قرن بمعدل انقلاب كل 15 أو عشرين عاما، منذ الانقلاب الأول فى مايو من عام 1960 بقيادة الجنرال جمال جورسيل وتم إعدام رئيس الوزراء التركى المعروف عدنان مندريس وصدر الحكم على الرئيس جلال بايار بالسجن مدى الحياة، وفى عام 71 انقلب الجيش بسبب الوضع الأمنى المضطرب فى البلاد والصراع بين اليساريين والقوميين وأعلن رئيس الوزراء سليمان ديمريل تنحيه عن السلطة، وتأسس تحالف من سياسيين محافظين وغير سياسيين لاستعادة الأمن تحت إشراف الجيش.
وجاء الانقلاب الثالث سبتمبر 80 بقيادة الجنرال كنعان إفرين واندلعت معارك فى الشوارع بين يساريين وقوميين ، واعتقل كبار الزعماء السياسيين وتم حل البرلمان والأحزاب السياسية والنقابات المهنية، واستولى مجلس الأمن الوطنى المكون من خمسة أشخاص على السلطة وعلق العمل بالدستور وطبق دستورا مؤقتا منح قادة الجيش سلطات مفتوحة.
أما انقلاب 97 الذى أطلق عليه الانقلاب الأبيض على رئيس الوزراء نجم الدين أربكان، مؤسس حزب الرفاه والتنمية ذى الميول الإسلامية وهو ما رأته المعارضة خطرا على الدولة العلمانية فى تركيا، فتحرك الجيش وضغط على أربكان وأجبره على الاستقالة دفاعا عن مبادئ مصطفى كمال أتاتورك.
التاريخ التركى مع الانقلابات معروف، والجيش إذا تحرك سقطت الحكومة، ولكن كانت دائما تبقى الديمقراطية.. هذا هو ما استقر لدى الأتراك منذ الستينيات، فالجيش لا يحكم بالشكل المباشر، لكنه دائما بنفوذه وقوته موجود فى مجمل المشهد السياسى التركى داخليا وخارجيا.
الانقلاب الأخير لم يكن مثل السوابق الماضية، ودارت حوله التساؤلات والشكوك حتى من الأتراك أنفسهم حول أجندته وتخطيطه والقائمين عليه وأهدافه ونواياه، ويبدو أن الوضع قد تغير كثيرا منذ انقلاب 97، وأن أردوغان وحزبه حققا الكثير على الأرض داخل المؤسسة العسكرية بما يفسره مراقبون بأنه انقلاب على الدولة الأتاتوركية تمهيدا لإعلان الدولة الأردوغانية المسيطرة والمتحكمة على كل مقاليد السلطات فى البلاد بما فيها الجيش الذى يبدو، إذا استمرت الأوضاع على ما هى عليه واستقرت الأمور لصالح أردوغان، أن دوره انتهى تماما فى السياسة التركية، وأنه لم يعد حاميا للعلمانية الأتاتوركية، وأنه لأول مرة منذ 90 عاما يتعرض لإهانة كبرى وزلزال بعد نجاح أردوغان فى اختراقه وإنشاء جيشه الخاص على طريقة الحرس الثورى طوال 14 عاما منذ وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم، فقد جرت فى النهر مياه كثيرة بعيدا عن «جنرالات تركيا».
تركيا الجديدة بعد محاولة الانقلاب ينتظرها مستقبل ومصير مختلف تماما، ويبدو أن الوضع الداخلى مرشح أكثر لمزيد من التعقيدات السياسية والعسكرية والأمنية.. فالقصة لم تنته حتى لو كان ما حدث فيلمًا تركيًّا لـ5 ساعات فقط.