عندما تحرك الجيش التركى، حامى القيم الديمقراطية والعلمانية التى أسسها كمال أتاتورك بانى تركيا الحديثة، للحفاظ على هذه القيم بعد 36 عاما من آخر تدخل له فى الأمور السياسية، كان السبب الرئيسى لتحركه أخطاء وخطايا رجب طيب أردوغان، لدرجة إعلانه تحطيم النظام البرلمانى الديمقراطى، وفرض النظام الرئاسى من خلال تعديل الدستور، بما يعنى فرض الحقبة الأردوغانية بما تتضمنه من عنف واستبداد وعصف بحقوق الإنسان وحرية الرأى والتعبير، ورغم فشل تحرك الجيش التركى فى استكمال سيطرته على مؤسسات الدولة، وإعلان حكومة يلدريم عودة الأمور إلى طبيعتها، فإن الأرض اهتزت بشدة تحت قدمى أردوغان، وتعرضت شرعيته والبقاء فى الحكم أصلا لشرخ كبير، ناهيك عن تراجع شبح الانقلاب الدستورى الذى كان بصدده لتنصيب نفسه رئيسا بسلطات مطلقة، وحتى نفهم التحرك الأخير للقيادات الشابة فى الجيش التركى، لا بد وأن نستعرض السياسات الفاشلة والمغامرات التى اندفع إليها أردوغان داخليا وخارجيا، وكانت نتيجتها وبالا عليه وعلى الحزب الحاكم، وعلى وضع تركيا فى أوروبا والعالم اقتصاديا وسياسيا، فأردوغان الذى ترك رئاسة الحكومة فى أغسطس من 2014 لوزير خارجيته السابق أحمد داوود أوغلو، ليتولى رئاسة الدولة، قبل أن يطيح بأوغلو منذ شهور، ويأتى بتابعه وظله بن على يلدريم، ظل ممسكا بكل خيوط اللعبة السياسية فى تركيا، رغم أن منصب الرئيس هو برتوكولى شرفى ولا يتيح له التدخل والهيمنة على سلطات رئيس الحكومة أعلى سلطة تنفيذية فى البلاد.
هذا النزوع نحو تجاوز الدستور والهيمنة على مقاليد كل السلطات فى البلاد كان فيما يبدو بداية النهاية للنجاح السريع، الذى تحقق مع تولى حزب العدالة والتنمية الحكم فى عام 2002، فالسنوات الخمس الأخيرة لأردوغان فى رئاسة الوزراء، شهدت أخطاء وخطايا كبرى أدت إلى دخول أردوغان وحزبه فى نفق مظلم من الصراعات الداخلية والخارجية بصورة تنذر بانتهاء حقبة العدالة والتنمية وبخسائر كبيرة.
الفساد هو العنوان العريض لأولى الفضائح التى جر أردوغان حزب العدالة والتنمية الحاكم إليها، لتتراجع شعبيته بصورة ملحوظة وسط تنامى تيارات المعارضة الحزبية والشعبية، خصوصا فى أوساط الشباب، فخلال الأعوام الثلاثة الماضية كشفت التحقيقات عن قضيتى فساد كبيرتين، تتعلقان برشاوى واستغلال نفوذ بمليارات الدولارات بين وزراء آخر حكومات أردوغان، وزكمت الأنوف بتفاصيل حصول عدد من الوزراء على أموال طائلة لتسهيل حصول رجال أعمال على تراخيص لإقامة مشروعات تجارية وسياحية ضخمة، وكذلك سيطرة عائلة أردوغان نفسه على بعض مشروعات إنشائية وأخرى فى مجالى السياحة والنقل تقدر بمائة مليار دولار، الأمر الذى أدى فى النهاية إلى الإطاحة بوزراء الاقتصاد والداخلية والبيئة مع تسوية التحقيقات معهم، حتى لا يتعرضوا لمساءلة تؤدى إلى الزج بهم فى السجون، بعد أن هددوا علنا فى وسائل الإعلام بأنهم سيكشفون كل شىء فى حال توجيه اتهامات جنائية لهم، وأنهم لم يقوموا بأى إجراء مما تم الاعتراض عليه وإدانته إلا بمعرفة أردوغان نفسه.
وحتى يستمر أردوغان فى الحكم ويواجه الاحتجاجات المتصاعدة تجاهه، سواء من المعارضة السياسية أو من أوساط الشباب فى الجامعات، كان لا بد له أن يسير على ثلاثة مسارات متوازية وبسرعة، أولها قمع المعارضين وكل من شارك فى كشف قضايا الفساد وإظهارهم بمظهر المتآمرين، وكذا إطلاق أكبر عملية خداع للشعب التركى من خلال احتواء وسائل الإعلام المعارضة، وتصوير القضية فى وسائل الإعلام التابعة على أنها قضية سياسية، ومؤامرة تستهدف الانقلاب على حكومة الحزب المنتخب، أما المسار الثالث، فهو تغيير النظام السياسى فى البلاد ليتيح سلطات أكبر وأوسع لرئيس الدولة.
يراهن أردوغان على استعادة حلم العثمانيين باستعادة السيطرة على الولايات العربية فى الدول العثمانية الغابرة، العراق والشام والحجاز، ويراهن كذلك على حصد المكاسب الاقتصادية على دماء وأشلاء ضحايا الإرهاب والحروب الأهلية فى البلاد العربية، لكن السحر انقلب على الساحر، وبدأت الثورات الوطنية تحتوى الانقلابات المخابراتية، وتمنع أى مكاسب سياسية أو اقتصادية لمقاولى الدم من عينة أردوغان، وما حدث فى ليبيا من وقف التعامل مع جميع الشركات التركية هو بداية الخسارة الاقتصادية لأردوغان، وكذلك الخلاف الجذرى مع أوروبا حول قضية اللاجئين، ووصم تركيا بأنها دولة معادية لحقوق الإنسان، وبالتالى استبعاد انضمامها للاتحاد الأوروبى، لكن أبرز خطايا أردوغان تمثلت فى سعيه لتغيير الأساس الدستورى، الذى تقوم عليه مؤسسات الدولة وتنصيب نفسه سلطانا مستبدا جديدا، الأمر الذى يعنى تقويض المجتمع التركى ودخول أنقرة فى نفق مظلم من القمع والفوضى.
مشاركة
اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
مشاركة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة